تخطى إلى المحتوى

ماهر أبو شقرا – في تنظيم الثورة والمجالس الثورية مقابل دكتاتورية الخيار الوسطي – #لِحَقّي

في تنظيم الثورة والمجالس الثورية مقابل دكتاتورية الخيار الوسطي

ماهر أبو شقرا
12 شباط 2019

تقول نظرية والتر كانون أن الكائنات الفقارية، ومنها الإنسان، تستجيب للخطر أثناء مواجهات الحياة أو الموت عبر استنفاذ الجهاز العصبي تماماً. ينشغل الجهاز العصبي باحتمالي الكر أو الفر، الكفاح أو الهروب، بشكل شبه كامل وذلك على حساب وظائف أخرى في الجسم. تستأثر العضلات والأعضاء المطلوبة في عملية الكر والفر بالكثير من الدم والأوكسيجين والانتباه، بينما يتبقى للوظائف الأخرى في الجسم القليل الضروري لبقائها فحسب...

كان هذا حالنا وحال الثورة في الفترة الأولى، فترة المد وارتفاع الموجة الثورية. بالنسبة للثورة كانت مواجهة حياة أو موت، وكانت كل طاقاتها وانتباهها وجهازها العصبي مستنفذة لتلبية مهام ووظائف المواجهة اليومية والمتغيرات السريعة، وذلك على حساب التفكير والتنظيم والانتظام. كانت دفة القيادة بيد الحدس الثوري الذي كان أصدق من أي تفكير وأطهر من أي تنظيم.
مثل كل ثورة، فإن الصيرورة الثورية تأتي على شكل موجات متعاقبة تضرب جدران النظام الحاكم، وكل موجة يتبعها انحسار. وإذا كانت مرحلة المد والارتفاع هي مرحلة مواجهة حياة أو موت، مواجهة تستنفذ الجهاز العصبي للثورة على حساب وظائف أخرى، فإن مرحلة الانحسار هي مرحلة التنظيم والبناء.
لكن عن أي بناء نتحدث وعن أي تنظيم؟
قبل البدء بالحديث عن تنظيم الثورة، ينبغي تحديد الهدف من هذا البناء ومن هذا التنظيم. الأمانة والإخلاص تقتضي بأن يكون الهدف الأساسي والأسمى من التنظيم هو حماية مكتسبات الثورة السياسية، وليس استثمار هذه الثورة. إن الثورة في فترة المد، في فترة ارتفاع الموجة الثورية، تحقق مكتسبات وتفرض شروطاً جديدة للصراع السياسي مع السلطة. وبالتالي فإن الهدف الأساسي من البناء هو حماية هذه المكتسبات لتحسين الشروط في المواجهات المقبلة عند الموجة الثورية القادمة.
فما هي المكتسبات الأساسية التي تحققت في المرحلة الأولى؟
المكتسب الأول الذي حققته إنتفاضة ١٧ تشرين هو استعادة الحيز العام واستعادة المساحات العامة المفتوحة على شكل خيم نقاش ولقاء وتفكير وتضامن شعبي ومنطلق للتحركات.
قبل ١٧ تشرين كانت خيم كخيم الثوار ستعد تعدياً على الأملاك العامة. بعد ١٧ تشرين استعاد الناس الحيز العام، ومشهد الخيم أمسى مشهداً طبيعياً.
المكتسب الثاني الذي حققته الثورة هو تثبيت مبدأ اللامركزية في مواجهة النظام. فالثورة لم تواجه النظام في قلعته المركزية في قلب بيروت فحسب، بل واجهته في الحدائق الخلفية: في المناطق، فتحركت أقضية ومدن وبلدات لبنان؛ وفي القطاعات أيضاً، فتحرك الطلاب والأساتذة والمهندسين/ات والأطباء والفنانين/ات انطلاقاً من قطاعاتهم، وتوج المحامون انتظامهم القاعدي بانتصار كبير جاء بملحم خلف نقيباً للمحامين.
بعد ١٧ تشرين تثبتت فاعلية وأهمية المواجهة اللامركزية الشاملة مع النظام، مناطقياً وقطاعياً. فهو شكل المواجهة الذي يستنزف النظام ويستفيد من كثرة الناس بأفضل شكل ممكن، فضلاً عن الحماية السياسية للثورة: فكل المناطق تواجه كل قوى المنظومة الحاكمة.
أما المكتسب الثالث فهو التثبيت الحاسم للانقسام السياسي-الاقتصادي بين الناس ومصالحهم وحقوقهم من جهة وبين الأوليغارشية الحاكمة: بين حقوق ال٩٩٪ ومصالح ال١٪ المهيمنين، بين الشعب اللبناني وقيادات ٨ و١٤ آذار مع حلفائهم الاقتصاديين كجمعية المصارف ومصرف لبنان وكبار المحتكرين. هذا الانقسام لم يكن يوماً بهذا الوضوح على أرض الواقع وفي أذهان الناس. وما شعار كلن يعني كلن الذي تمسكت به إنتفاضة ١٧ تشرين إلا تجسيداً واقعياً لهذا الانقسام.
وما العمل لحماية هذه المكتسبات الأساسية الثلاث؟
قبل أن نبحث فيما يجب أن نفعله ينبغي أن نفكر فيما يجب ألا نفعله.
أولاً، يجب ألا نعلن أو حتى نعتقد بأن الثورة انتهت وبأنه حان وقت استثمارها سياسياً وانتخابياً، فهذه خيانة للثورة وللناس. بل نقول الثورة مستمرة، ستعلو أمواجها حيناً وستنحسر أحياناً، إنما الثورة مستمرة!
ثانياً، هناك آلاف الثوار الذين انضموا إلى ركب الحياة السياسية حديثاً بعدما أعادت الثورة تعريف السياسة في أذهانهم. يجب ألا ننسلخ، كمنظمين/ات سياسيين/ات، عنهم ونذهب إلى طاولات إئتلافية سرعان ما ستتحول إلى فقاعات جديدة منسلخة عن الثورة والناس والواقع.
ثالثاً، يجب ألا نقدم على خطوات سياسية قائمة على تدوير الزوايا وطمس الفروقات السياسية بين المجموعات السياسية في الثورة بهدف خلق بديل جامع. فهذا البديل السياسي الجامع سيرتكز على القواسم المشتركة، وهذا في الغالب سينتج عنه متوسط باهت للاختلافات السياسية، وسينتج عنه عموميات تعجز عن اجتذاب أحد وتخنق أية جدلية فكرية. ثم إن تشكيل خيار سياسي بناء على نقاط الالتقاء هو الخيار الأقل ديمقراطية. هو دكتاتورية الاتجاه الوسطي، دكتاتورية الخيارات الوسطى مهما كان تمثيلها قليلاً؛ إنها دكتاتورية التوفيقيين!
اليوم نعيش وضعاً غير مسبوق من الحركة السياسية وابتكار واختبار الأفكار، وإن دفن هذا التنوع جريمة لا تغتفر! يجب إذكاء التنوع والتعددية والحركة.
اليوم، ومن أجل حماية مكتسبات ثورة ١٧ تشرين بالدرجة الأولى، يجب أن نصرف أنظارنا عن المجموعات والتنظيمات السياسية وأن نتجه للقواعد والأرض. أفضل ما يمكن أن نفعله كثوار منظمين هو التالي...
أولاً، أن نقوم بتثبيت خيم وساحات الثورة كمساحات عامة مفتوحة، وتكثيف النشاطات فيها، والابتكار في هذا المجال ضروري ومطلوب.
ثانياً، أن نقوم بحماية لامركزية الثورة من خلال تثبيتها عبر انتخاب مجالس ثورية محلية مناطقية يتمثل فيها الثوار، وأيضاً مجالس ثورية للقطاعات والنقابات البديلة. ولتجتمع هذه المجالس الثورية في مجلس وطني يمثل الثورة على أسس واقعية مرتبطة بالأرض والعمل وليس بفضاء الأفكار وفقاعات الناشطين السياسيين.
ثالثاً، أن نقوم بحماية المكتسبات السياسية للثورة، أي حماية الانقسام الأفقي الذي تثبت بعد ثورة ١٧ تشرين. شخصياً، أفضله على شكل قسم أو تعهد موقع من جميع الثوار. التعهد باستكمال الثورة ومواجهة جميع حكومات النظام الحاكم. التعهد بالالتزام بالعمل الثوري من أجل أن لا يدفع الناس، بدلاً من الأوليغارشية الحاكمة والمنتفعين، ثمن الأزمة التي قادتنا إليها المنظومة السياسية-الاقتصادية الحاكمة. التعهد بعدم تنزيه أي من أطراف المنظومة الحاكمة التي شكلت الحكومة السابقة وأمنت نصاب جلسة الثقة بالحكومة الحالية، وجلسة إقرار الموازنة...

السلطة لبنان