إذا كنا نتّفق جميعاً أن ما بعد ١٧ تشرين ليس كما قبله، الا انه يبدو أن معظمنا لم يدرك أن ما قبل بداية الكارثة المعيشية التي نعيشها بكل أشكالها الإقتصادية والإجتماعية ليس كما بعدها .
فمنذ ١٧ تشرين على سبيل المثال، اصبحت الهتافات ضد أحزاب السلطة علانية ومباشرة وسط ساحات بعلبك - الهرمل من دون تردد امرا عادياً، وسط تجاوب واضح للناس يصل حد التأييد بل والمشاركة، والأمثلة تكثر في المناطق التي تخطت ما كان يعتبر من المحظورات، حيث كُسرت حواجز الخوف من مدينة صور جنوبا وصولاً إلى عكار شمالا، وكل التنظيمات والأفراد لمسوا هذا التغيير، وبَنَوا عليها تغييرات جذرية في الخطاب وفي التحركات على الأرض وفي التحالفات...
لكننا توقفنا هنا!..
فمع تدهور الوضع المعيشي وانهيار سعر صرف الليرة وتحليق سعر المحروقات وضياع أموال المودعين وكل المتغيرات، واصلنا الاحتجاجات والخطابات والتواصل فيما بيننا بالطرق عينها، وكأننا لا نزال في أيام ١٧ تشرين الأولى.
لم نتنبّه إلى أن انفجار مرفأ العاصمة وتدمير نصف المدينة لم يكن كفيلاً بسقوط الزمرة الحاكمة ومحاسبتها. ولجوء المواطنين إلى الأحذية البالية وصناديق البلاستيك لحرقها كوسيلة للتدفئة البديلة لن يحرّكهم أويحثّهم إلى تظاهرة تنديد ورفض لهذا الواقع المرير.والهجرة الجماعية الكبرى التي تشهدها البلاد لن تتوقف بسبب نداء صادق من تنظيم ثوري .
استمرارنا بالنهج ذاته في الإعتراض ومحاولة التغيير لم يودي إلى الغاية التي نريدها، وما زال أغلبنا مصرّ على اعتماده آملاً بنتيجة مغايرة .
وأنا لست بموقع عالم الإجتماع ولا الفيلسوف أو العرّاف لأحدد "المسار الثوري المنتظر"، ولا أملك دليل الثورة الناجحة لأرسم الخطوات المستقبلية المضمونة، ولكنني جزء من الناس الذين يعيشون الحياة اليومية، ونواكب معاً أخبارنا ونسرد حكاياتنا ونتشارك همومنا ونبني آمالنا.
وأنا لم أعد أرى أي جدوى من اعتراضات الشارع التي صارت أشبه باستعراضات ليس الا، رغم حسن نوايا منظّميها في أغلب الأحيان.
وأنا جزء من تنظيم لا يريد من الشعب أن يأتي إليه ويرفع رايته. فهذا التنظيم يريد أن يتوجه إلى الشعب الذي نتكون منه ولا يجوز أن تبقى حركتنا بعيدة عنه .
وفي رأيي الشخصي، اعتقد أن أي دعوة لتحرك عادي على الأرض لمجرد تسجيل موقف تاريخي دون تصوّر لما بعده لن تؤدي إلا إلى مزيد من الإحباط وازدياد الشرخ بين عموم الناس والتنظيمات الثورية، وبالتالي استمرار الإرتهان المُجبَر لأحزاب السلطة. وبهذا سنبقى عالقين في دوّامة تخوين أهلنا الذين لا يملكون اي خيارات سوى السيوف علينا والقلوب معنا .
كما أنني لا أدعو إلى التزام المنازل وانتظار الفرج، وإنما أرى أنه حان وقت العمل الشاق والمكلف عبر الإنتظام السياسي الثوري بطرقٍ جديدةٍ ورؤيةٍ عصريةٍ واضحةٍ وصادقةٍ مصدرها الناس.
حان الوقت لعمل لا يهمل الأرض ولا يترك الفكر. عمل جدّي ومضني يراكم على ما سبقه من عفوية ويساهم بالوصول إلى ثورة قادمة لا محالة.
انها ثورة ينتظرها أخ بكى أخيه المهاجر على باب المطار .
ثورة ينتظرها أب كتم قهره عند توسّله وظيفة لإبنه من حقير.
ثورة تنتظرها أم سقطت آخر شعرة من رأسها بعد علاجها من سرطان بدواء فاسد.
ثورة ينتظرها جاري كل صباح، ينتظرها بائع اللوتو وسط السوق، تنتظرها معلمة المدرسة، الطبيبة، المحامي، والعاطل عن العمل، والعسكري المتقاعد سائق التاكسي، والموظف الهالك، والمراهق الغاضب...
ثورة ننتظرها كلنا بكل ما تحمله من تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي تعيد لنا حقنا بالحياة..