تخطى إلى المحتوى

الهوية وتحديات العصر

mazen nassereddine

الإنسان ليس مجرّد كائن منعزل، بل هو جزء من نظام بيئي مُعقّد يقوم على التفاعل بين الكائنات، الحية منها وغير الحية، تفاعلٌ فرض ويفرض التنسيق المُستمر بين البشر أنفسهم وبينهم وبين محيطهم.

من منظور علم التطور، ارتقى الإنسان ليكون أكثر قدرةً على البقاء والتكاثر في مجموعات وقبائل، وأكثر تكيّفاً مع البيئة المحيطة به، وكان ذلك من خلال فهم وتوقّع سلوك الكائنات الحية واستيعاب الظواهر الطبيعية، هذه القدرة التي قد تكون مدعومةً بأدواتٍ بيولوجيةٍ مثل التعاطف، والتحليل والتصوّر العقلي للآخر. فالتعاون بين أفراد القبيلة كان له دور محوري في تحسين فرص وظروف البقاء، كالتعاضد الجماعيّ في الصيد أو في الدفاع عن المجموعة ضد الأخطار الداهمة.
وهذا ما تطلب تباعاً العمل على التنظيم كحتمية لا بد منها.

لماذا حتمية التنظيم؟

للجواب على هذا السؤال يُستحسن الرجوع إلى إحدى قواعد علم الديناميكا الحرارية (Thermodynamics)، وهي قاعدة الأنتروبية (Entropy).

الأنتروبية هي، تبسيطاً، الميل الطبيعي لدى الأنظمة إلى الفوضى وإلى العشوائية بحيث أنّ عَكْسَ هذه العملية يتطلب بذل الجهد والطاقة. وهذا ينطبق على الكون وعلى كل ما فيه وربما على كل ما ليس فيه.

كذلك، يمكن تطبيق هذه القاعدة، استعارةً، على البنى المجموعاتية المختلفة.

نعم، الفوضى مريحة بطبيعتها ولا تتطلب جهداً، ولكن خطورتها تكمن في نتائجها التي ربما تكون وخيمة وكارثية. لذلك كلما التقى اثنان من البشر اقتضى اجتماعهما تنظيماً، وكلما زاد عدد أفراد المجموعة كلماً ازدادت، اضطراداً، الحاجة إلى العمل على التنظيم.

إذاً، اجتمع البشر بدايةً على مصلحة بقائهم كأفراد وكجنس، وكان لا بد من تنظيم علاقاتهم داخل المجموعة بالشكل الذي يحول دون الفوضى كمُعطى علمي حاضر، ويحدّ بالتالي من نتائجها.

وإذا كانت القبيلة هي أولى أشكال التنظيم إلا أن هذه البنية البدائية ما لبثت أن تطوّرت مع الوقت وتفرّع عنها بُنىً متعدّدة ومتشعّبة. الأسرة هي إحدى هذه البنى، كذلك الطائفة، والحزب، والوطن، والشركة، وفريق كرة القدم، وغيرها من البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية والفكرية والرياضية والعرقية والثقافية مما لا يمكن حصره وتعداده.

على مستوى أعمق، يمكن النظر إلى المجموعات البشرية على أنها أنظمة متشابكة تديرها مجموعة من القوى الديناميكية التي تتفاعل مع بعضها البعض. وعلى غرار الأنظمة الفيزيائية المعقّدة، يكون للأفراد في المجتمع تأثيرات متبادلة، وهذه التأثيرات تفرضها مصالحهم داخل المجموعة الواحدة، وهي إما أن تكون مصالح متضاربة، أو مصالح متبادلة او مصالح تتحقق بانتمائهم الى المجموعة او ما يُعرّف عنه اصطلاحاً بالمصالح المشتركة أو الصالح العام.

بتناول الحديث عن الانتماء الى مجموعة يبرز مفهوم الهوية لزوماً، لأن المجموعة في عملية تكوّنها ومأسستها واختلافها عن غيرها تحتاج إلى تعريف. فكما للفرد هوية تُعرّف عنه من خلال اسمه وعمره وجنسه، للمجموعات أيضاً هويّات تُعبّر وتُعرّف عنها. الهوية في هذا الوصف هي مجرّد انعكاس، أو شعار، أو غلاف؛ هي الإعلان عن المجموعة والتعريف بها وعنها.
لكن الهوية بطبيعتها كأداة تعريف ليست هي الاساس الذي تقوم عليه الجماعات والبنى، بل أن ما تقوم عليه هذه البنى مهما صغر او عظم شأنها هي شبكة المصالح التي تربط بين أفرادها. الهوية هي الظاهر والقشرة التي تخفي تحتها شروط وجودها، وهي تشتد وتتعاظم بمقدار ما تشتد وتتعاظم المصالح التي تُشكّلها، ويُصيبها الضمور وتتراجع لصالح هوية أو هويات أخرى بتراجع هذه المصالح. (من المُفيد أن نذكر هنا انه من الممكن لهوية معينة ان تتغلّب على باقي الهويات في ظروف معينة وفي مكان وزمان محدّدين؛ مثال على ذلك، أنه لدى حضور مباراة لكرة القدم لفريقك المفضّل، وبفعل الحماس الزائد - وهذا الحماس هو المصلحة الغالبة في هذه اللحظة بسبب الهرمونات المُفرزة وما تسبّبه من مشاعر مُرضية - تكون الهوية الرياضية طاغية على ما عداها من هويات).

من هذا المنظور تكون شبكة المصالح هي القاعدة والأساس والمعيار، ولا يجدر أبداً، لدى التطرق الى المسألة الهوياتية ودراستها بتعمّق، أن يغيب هذا المعيار عن الذهن لأن الصمغ الذي يربط الأفراد (والمجموعات) في هوية مشتركة هو ما يتوقعه هؤلاء من منافعٍ لهم ومن تحقيقٍ لمصالحهم. والمصلحة المقصودة هنا هي المصلحة بمعناها الواسع الذي يشمل المشاعر والعواطف وكل ما يمكن للإنسان أن يصبو إليه ويُشعِرُه بالرضى والسعادة والأمان. ولتوضيح ذلك، نأخذ مثال الأسرة المكونة من زوجة وزوج وأولادهما؛ هنا أيضاً يرتبط أفراد الأسرة بمصالح متبادلة، عاطفية ومالية ونفسية. الأب والأم لديهما مصالح مشتركة بالطبع ولديهما مصلحة مع الأولاد لما يُشكّله هؤلاء من تأكيدٍ للخصوبة ومن استمراريةٍ للنسل وللجنس البشري، وكذلك الأولاد لديهم مصلحة مع مُعيلَيْهِم لعدم قدرتهم على مواجهة صعاب الحياة او حتى تأمين قوتهم وهم في سنٍ مُبكرة.

ينطبق هذا على كل البنى بتنوّعها، فأعضاء الحزب الواحد مثلاً لديهم مصلحة أكيدة في تطورهم الشخصي داخل الحزب وصولاً الى تبوّء مناصب قيادية، كما لديهم مصلحة في تطور الحزب المُعبِّر عن أفكارهم وتطلعاتهم، وعندما لا يعود الحزب مكاناً لتأمين المصلحة الخاصة أو المصلحة العامة (والمصلحة العامة مصبّها مصالحٌ خاصةٌ) لا يعود من مُبرّر لاستمرار الحزب أو استمرار الأعضاء فيه.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الطائفة وإلى القبيلة وإلى الجمعية وإلى أيّة بُنية يمكن ان تتشكّل من أكثر من فرد.

إن نشوء الدولة، بمفهومها التاريخي، أي الدولة - الدركي (L’Etat-Gendarme) التي لا تؤمّن سوى الحماية، ومن ثم تطورها الى المفهوم الحديث كراعية لشؤون مواطنيها والجامعة لمؤسّسات شتى تُعنى بالقضاء والصحة والمواصلات فضلاً عن المصالح المستقلة والبلديات وغيرها، أثّر تأثيراً مباشراً وموصوفاً في شبكة المصالح التي كانت تقوم عليها القبيلة، وكذلك فَعَلَ نشوء الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات بشبكة المصالح التي تؤمنها الدولة.

تقوم شبكات المصالح هذه على توازنٍ دقيقٍ بين المصلحة المُحقّقة فردياً وبين المصلحة المُتوخّاة من الانتماء الى المجموعة، وكذلك بين المصلحة المُحقّقة في مجموعة وبين تلك المُحقّقة في مجموعة أُخرى، وعندما يختل التوازن تبدأ بعض الشبكات بالتخلخل والتحلل وصولاً الى ضمورها أو بقائها بشكل رمزي لا يُعبّر عن حقيقة ما تُمثله من مصالح لم تعد تفي بالغرض المنشود منها.

وهذا يطال الأسرة الصغيرة أيضاً، فالبشر لم ينتظموا في أُسرٍ إلا لضروراتٍ فرضتها البيئة المحيطة والمُقتضيات المصلحية في زمن معين. فعمر البشر، يعود الى ملايين السنين، وأجدادنا المُباشرين، الـ Homo sapiens، يتراوح وجودهم بين المئتي والثلاثمئة ألف عام، والأسرة كما نعرفها اليوم لم تنشأ سوى منذ عشرة الى عشرين ألف عام فقط، أي أن الأسرة، على سُلّم القياس هذا، لم تكن موجودة إلا منذ فترةٍ وجيزةٍ، وليس بالضرورة أن تكون موجودة في المستقبل.

عندما تختل أو تنفرط شبكة المصالح التي تقوم عليها الأسرة كبنية تنتهي الأسرة، وعندما تختل شبكة المصالح التي تقوم عليها الطائفة أو القبيلة أو الأوطان أو أية بُنية أُخرى مهما كان شكلها ومضمونها تنتهي هذه البنية، هكذا، بهذه البساطة.

عندما كانت "القبيلة" تؤمّن مصالح هامة لأفرادها، الخاصة منها والمشتركة، كانت بنيتها متماسكة وصلبة.

هل "القبيلة" اليوم تُشبه ما كانت عليه قبل مئة ألف عام أو قبل ألف عام أو حتى قبل مئة عام؟ هل أن المصالح داخل "القبيلة" الواحدة، وبالتالي هويّتها، قادرة على مواجهة متطلّبات العصر، ونحن على شفير الانهزام أمام الذكاء الاصطناعي وفيزياء الكمّ؟

وهل بإمكان "القبيلة" أن تُشكّل حالياً بُنيةً اجتماعيةً أو سياسيةً أو اقتصاديةً أو نَسَبيّةً لها مغزى أو مفعول يُعوّل عليهما في مسار تقدّم الجنس البشري؟ هذا إن بقي من جنس بشري!