سياسة البحث عن بدائل - جنى ابو شقرا
30 نيسان 2021
لعلّ أوّل ما لاحظته، مع ارتفاع سعر الصرف الليرة مقابل الدولار، هو التغيّر في الأسواق المحلّيّة. بدأت بضائع غير مألوفة بالظهور على الرفوف، أخذت أماكنها واستقرّت عندما أصبحت مرغوبةً أكثر من البضائع الّتي اعتدنا عليها لسنواتٍ سابقة. فلمّا أصبحت أسماء وماركات اعتدنا عليها، لفتراتٍ طويلة، غير قادرة على مواكبة السوق ومتطلّبات الناس، أثبت بعض البدائل، وخصوصًا المحلّيّة منها، أنّه أجدر ممّا سبق.
ففي الأوقات العاديّة، نتجاهل البدائل ونكتفي بالموجود. أمّا خلال الأزمات، فتبدأ رحلة البحث عن البدائل كشبكة خلاص. نعاني اليوم في لبنان من 3 أنواع من الأزمات: الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة.
فما هي البدائل الموجودة وهل ستقلب الموازين؟
بدائل اجتماعيّة
مع بدء انتشار فيروس كورونا، انقلبت الموازين في ضيعتي الصغيرة "عماطور". فالعادات والتقاليد الّتي كانت تحكم المجتمعات سابقًا، أصبحت على أبواب الانقراض مع ظهور الفيروس الّذي فرض بدائل اجتماعيّة. في السابق، كانت "الواجبات" الاجتماعيّة تحكم الواقع، فنرى الرجال والنساء باللباس الأسود يمشون وفودًا إلى دار الضيعة لحضور المأتم. أمّا اليوم، فحكمت البدائل أن تكون التعازي على الهاتف حصرًا. هذه البدائل، الّتي وُجدت للتأقلم مع الواقع الجديد الّذي ولّدته الأزمة، أثبتت فعاليّتها؛ فكثيرًا ما يعبّر الناس عن ارتياحهم للنظام الاجتماعيّ الجديد بوصفه الأقلّ تكلّفًا. حتّى النساء كبار السنّ، المناهضات للتطوّر التكنولوجيّ، وجدن في الاتّصالات عبر الواتساب بديلًا عن صبحيّات النساء، وأصبحت من عاداتهن الجديدة أن يقضين ساعةً في اتّصال فيديو صباحيّ للتكلّم مع الأقرباء.
بالإضافة إلى تبدّل العادات، خلقت الأزمة، الّتي يمرّ بها لبنان، العديد من المبادرات التضامنيّة الاجتماعيّة للتعويض عن غياب الدولة في الدعم الاجتماعيّ. فأصبحت هناك مبادرات تعنى بالأمن الغذائيّ، وأخرى هدفها الدعم النفسيّ المجانيّ، وغيرها تسعى لتأمين الأدوية... وكلّها يجمعها العنوان الأوسع: "التضامن الاجتماعيّ".
بدائل اقتصاديّة
مع بدء الأزمة الحاليّة، بدأت أبحث عن موارد خارجيّة للاستثمار والادّخار. عندها، بدأت أكتشف حقيقة الاقتصاد اللامركزيّ والعملات الرقميّة. تقول حلا نصرالله، وهي خبيرة في العملات الرقميّة، أنّ الاقتصاد الرقميّ هو شكل من أشكال الاقتصاد البديل، وقيمته دائمًا في ارتفاع في ظلّ الأزمات ونستطيع أن نلاحظ ازدياد الطلب على البتكوين والعملات الرقميّة في الدول الّتي تشهد أزمات تضخّم ماليّ كلبنان، تركيا، فنزويلا، وغيرها من الدول. تكمل حلا الحديث عن البدائل لتقول أنّ اللبنانيّين واللبنانيّات لهم الحضور الأقوى في مواقع الأعمال الحرّة على الإنترنت، كبديل عن سوق العمل الّذي يشهد ضعفًا وركودًا في لبنان. أشارت بعدها إلى أهمّيّة البدائل في النموّ، بحيث قدّمت مثالًا لقريتين في أوكرانيا استبدلتا بالكامل أنظمتهما الاقتصاديّة بأنظمة رقميّة لامركزيّة، وشهدتا نموًّا يفوق ال1000%. هذه البدائل يظهر أغلبها في الأزمات، ولكن من الأكيد أنّها ستبقى إلى ما بعد الأزمات وستقلب موازين القوى في الاقتصاد العالميّ.
أمّا على الصعيد المحلّيّ، فقد بدأ التركيز على البدائل في المشاريع الاقتصاديّة. في السابق، كان أصحاب المشاريع يسعون إلى تأسيس شركات خاصّة، وكان التركيز على الأرباح الفرديّة. أمّا اليوم، فانطلقت التعاونيّات الإنتاجيّة والشركات الاجتماعيّة للتعويض عن النقص في فرص العمل وضعف عنصر الإنتاج المحلّيّ، وتسعى هذه النماذج البديلة إلى إثبات نفسها كشكل مستدام للمؤسّسات الاقتصاديّة.
بدائل سياسيّة
مع تضخّم الأزمات السياسيّة الّتي شهدها لبنان من الفساد إلى الطائفيّة السياسيّة، ظهرت بدائل تنادي بالتغيير. هذه البدائل تتمثّل بمجموعات سياسيّة وتنظيمات تخلق أشكالًا جديدةً للنظام وتطرح حلولًا تنادي بالعدالة وتسلّط الضوء على تقاعس السلطة في إدارة الأزمات. ما زال هناك بعض التخوّف من هذه المجموعات التغييريّة، إلّا أنّ (كما في جميع الأمثلة السابقة) تظهر قوّة البديل عندما يخضع للتجارب الناجحة الّتي تثبت قيمته وفعاليّته مقارنةً بما يستبدله. تستحقّ هذه البدائل السياسيّة الناشئة فرصةً لكي تثبت فعاليّتها، ولعلّ أهمّ تغيير ممكن أن تحدثه هو إنعاش قدرة الناس على المحاسبة بعد سنين من تراخيها وتسليمها للأمر الواقع في المشهد السياسيّ.
هل ستبقى البدائل بعد زوال الأزمات؟
من أهمّ ما يمكن فعله لضمان استمراريّة البدائل هو إثبات قيمتها بعد زوال الأزمات. فعندما تظهر هذه البدائل إلى العلن وتتّصل ببعضها البعض، يتمّ حينها خلق نظام بديل أكثر فعاليّةً ممّا سبق، وسنتمكّن من خلاله فكّ الارتباط المبنيّ على التسليع وبناء شبكة جديدة تعمّق العلاقات الديمقراطيّة والتضامنيّة.
فهل نرى نظامًا جديدًا تلتقي فيه هذه البدائل، لخلق مستقبل أفضل وأكثر عدالةً؟ الجواب هو: الغد ليس ببعيد.
جنى ابو شقرا