17 حزيران 2020
يدرك حزب الله – كمعظم اللبنانيين/ات - تمامًا أنّ وجوده وسلاحه والنفوذ المتأتّي منه هو على نقيضٍ تمامًا في أبسط قواعد قيام الدولة الحديثة.
إنّ دولة القرون الوسطى كانت تقوم على تحالف بين مجموعة من مجموعات مختلفة (عرقيات، قوميات، عشائر، إقطاعيات، دوقيات، إلخ.) فيما بينها تحت راية ملك أو أمير واحد. بالتالي، فإنّ الدولة تتّسع أو تصغر بحسب انضمام أو انسلاخ إحدى هذه المجموعات. وكانت الدولة ككلّ تقوى أو تضعف بحسب قوّة هذا التحالف أو تضعضعه. وقد كان لكلّ مجموعة منها مقاتلوها (قبضاياتها) الّذين يشكّلون جيشها عند الحاجة، ولها ضرائبها ونظامها للجباية، وفي بعض الأحيان قوانينها وأنظمتها الخاصة وإجراءاتها لمعاقبة المخالفين.
أمّا الدولة الحديثة، فهي تقوم بالدرجة الأولى على عقد، عقد سياسي-اجتماعي-ثقافي-اقتصادي بين مختلف المجموعات؛ هذه المجموعات قد تكون اثنيات وقوميات مختلفة، أو اتّباع أديان ومذاهب وثقافات مختلفة، أو أبناء مناطق أو عشائر أو مهن، وبطبيعة الحال طبقات اجتماعية مختلفة، أو كلّ ما سبق. هذا العقد يقوم بالدرجة الأولى على إقامة دولة، كتشكيل مجرّد (abstract) ومُتَخيَّل (imagined order) مستقلّ ذات شخصية معنوية قائمة بذاتها، تحتكر العنف بالدرجة الأولى وتحتكر الحقّ بممارسته تجاه مكوّناتها أو الآخرين، وقد وضعت الضوابط الكفيلة لمنع تفلّت هذا العنف ولتبرير استخدامه بالوقت نفسه، وجعلت لهذا التشكيل المتخيّل مساحة لنفوذه. بلغةٍ أخرى: فالدولة تقوم على دستور يمثّل ذلك العقد بين المجموعات المكوِّنة للدولة؛ وقوانين تضبط حدود علاقات الأفراد والمجموعات فيما بينها ومع الدولة؛ القوى الأمنية والجيش هي أداة العنف الذي تحتكره وتمارسه تجاه أفراد أو مجموعات داخل منطقة النفوذ الجغرافية – حدود الدولة – أو خارجها – أي الدول الأخرى. طبعًا، لهذه الغاية تطوّرت مفاهيم كالسيادة الوطنية وسيادة القانون والانتماء الوطني وغيرها من المفاهيم، التي سعت إلى تكريس هذا التشكيل المجرّد والمتخيّل وجعله حقيقة مادية حقيقية قائمة بذاتها.
تبدأ المشكلة حين يتمّ خرق هذا العقد، وهذا الخرق قد يكون صغيرًا كخلاف على موقف للسيارة، وقد يصل إلى حدّ النزاع الجوهري على حدود النفوذ والسيطرة أو الهوية العامة للدولة. في حين أنّ الحالة الأولى يمكن حلّها عبر استخدام الشرطي لنفوذه المعنوي أو تحرير مخالفة أو ربّما عصاه؛ فإنّ خروقات أخرى قد تؤدّي إلى غرامات مالية أو حجز حرية (أي السجن) أو القتل العمد (كالإعدام). والشكل الثاني من الخروقات قد يؤدّي إلى نزاعات مسلّحة – حروب، ثورات، تمرّد، عصيان، إلخ.
لهذا، فإنّ خرق هذا العقد، إنْ عبر استغلال لإحدى المجموعات (طبقة، طائفة، اثنية، منطقة، إلخ.) للدولة وأدواتها وسلطتها لصالحها دون المجموعات الأخرى، وبالتالي تسعى لتعزيز وتقوية دور وقوّة ونفوذ الدولة لتعزيز هيمنتها ومصالحها كفئة؛ أو عبر خرق إحدى المجموعات للتفويض المعطى للدولة باحتكار العنف عبر امتلاك أدواته، ما يعزّز تغلُّبية هذه المجموعة على حساب باقي المجموعات ويضعف الدولة. سيؤدّي، في الحالة الأولى، إلى تعزيز الحاجة إلى مواجهة الدولة المنحازة – الدولة الفئوية – قد تصل إلى مواجهة ربّما عنيفة أو مسلّحة - ثورة أو تمرّد أو عصيان أو إلخ. أمّا مع الحالة الثانية، فستؤدّي حتمًا إلى سعي المجموعات الأخرى إلى امتلاك وسائل مشابهة، أي المزيد من الإضعاف للدولة، ما يؤدّي إلى حروب "أهلية" وإلى قيام دويلات موازية.
الكارثة في لبنان أنّ كِلا الحالتين من الخرق متجسّدتان. الحالة الأولى (الدولة الفئوية)، تتمثّل ببُعْدَين: الأوّل عبر احتكار السلطة بيد تحالف من أمراء الحروب مع أصحاب رأس المال المصرفي تحديدًا – ما يشكّل الأوليغارشية الحاكمة اليوم، التي تحتكر السلطة والنفوذ وتسخِّر القوانين والأجهزة لخدمة مصالحها، ما أدّى إلى قيام ثورة 17 تشرين؛ والبعد الثاني، عبر تاريخ طويل من تغلَّبية طوائف على الأخرى، إن بسبب القوّة العددية أو الاقتصادية أو كلاهما، ما دفع المجموعات المتضرّرة إلى محاولة تغيير الواقع – بشكل رئيسي – عبر التسلّح، ما أدّى إلى ظهور الحالة الثانية (الدويلات الموازية) من خرق العقد المؤسّس للدولة. هذه الحالة (الثانية)، هي ما يتجسّد اليوم بحزب الله وسلاحه – طبعًا كان لنا في السابق تجارب مختلفة: أحداث ال58، السلاح الفلسطيني، الجبهة الوطنية والجبهة اللبنانية. بالرغم من تأكيدات حزب الله لوجهة استخدام هذا السلاح، فإنّ ذلك لم يمنع استخدامه في الداخل بأشكال مختلفة:
- عام 2006 كان موجّهًا للخارج، ولكن لقَلب المعادلات الجديدة الداخلية التي تكوّنت عام 2005؛
- عام 2008 استخدم بالداخل بشكل واضح وصريح، وقد كشف وجود سلاح – وإن بكفاءة وفعالية مختلفة – لدى المجموعات الأخرى - ما يؤكّد "الدويلات الموازية"؛
- عام 2011 مع القمصان السود، لم يظهر السلاح، وحتّى اليوم لم يظهر ما يثبت أنّ حركة القمصان السود قد حدثت فعلًا كما أشيع. لذا، فإنّ الإشاعة نفسها كانت كافيةً لقلب التوازنات السياسية وتغيير التحالفات؛
- لمرّتين، تعطيل مفاعيل الأكثرية النيابية عبر منع انتخاب رئاسة الجمهورية لسنوات عدّة.
هذا ما يجب الإقرار به: إنّ بقاء سلاح بيد حزب الله وحده فيه إضعاف للدولة من حيث المفهوم أوّلًا، كما سيستجلب حتمًا سلاحًا مضادًّا – مهما كان عنوان سلاحه أو السلاح المضادّ (مقاومة، تحرير، تحرّر، ثورة، إلخ.). ومهما كانت هويّة سلاحه أو السلاح المضادّ (عقائدي، طائفي، طبقي، نفوذ خارجي، إلخ.)، فإنّ مواجهةً كهذه حتمية، وليس ثمّة ما يشترط أنّ السلاح الأقوى هو المنتصر. وتجارب لبنان السابقة، مع منظمة التحرير أو القوّات أو غيرها، هي خير دليل.
ندرك تمامًا أنّ سلاح حزب الله في بدايته كان "نتيجة": حرب أهلية على كافة الأراضي اللبنانية، ما يثير الشهية لامتلاك السلاح وامتلاك النفوذ؛ سنوات طويلة من الاعتداءات الإسرائيلية على القرى الجنوبية، دون أن تقوم السلطة المركزية – بالتحالف مع الزعامات الإقطاعية المحلّية – بأيّ دور لحماية أبناء القرى أمنيًا أو تحصينهم/هنّ اقتصاديًا واجتماعيًا؛ سنوات من التهميش في التركيبة السياسية اللبنانية – مرّة أخرى، بالتحالف، ومشاركة الزعامات الإقطاعية المحلّية – فالنظرة إلى ميثاق ال43 كانت بأنّه اتّفاق ماروني-سنّي يضع الطوائف الأخرى على الهامش. فأدّى امتلاك السلاح إلى تغيير جدّي في واقع جمهوره، إن من ناحية ردع الاعتداءات، أو من ناحية الحصّة والنفوذ داخل تركيبة السلطة. بالتالي، ممّا لا شكّ فيه أنّ إقناع أنصار حزب الله وجمهوره بأنّه، رغم المنافع المباشرة لهم كفئة، إلّا أنّه يضرّ بباقي المجموعات وبالدولة الجامعة نفسها؛ أمر في غاية الصعوبة والضرورة في آن. كما لا يمكن لأي فئة أو مجموعة أو جماعة أخرى أن تدّعي القدرة على حلّ هذه المسألة بالقوّة والتحدّي، أو بالحلّ الأمني أو العسكري.
بقدر ما يدرك حزب الله وجمهوره ضرورة قطع ارتباطه بالمرجعية السياسية والعسكرية لإيران – بمعزل عن العقيدة ومصدرها – يمكن لعملية انتقال البلد نحو الحلّ الشامل ونحو الدولة الحديثة أن تكون أسرع. وكذلك بالنسبة إلى الأطراف الأخرى، فعليها أن تعي أنّ السلاح لن يختفي بمجرّد مهاجمته والاعتراض عليه، إنّما يتطلّب إعادة تركيب السلطة والمنظومة بأسرها باتّجاهٍ أكثر توازنًا وعدالةً.
بنِسَب متفاوتة، لأكثر من جماعة دويلتها الموازية، دويلة تسعى لتكريس نفوذ أحادي ومطلق على أبناء الفئة التي تصرّ على احتكار تمثيلها أمام الدولة المركزية. هذه الازدواجية بين المشاركة في تركيبة السلطة المركزية وبين النفوذ المحلّي، تعطي أركان المنظومة الحاكمة هامشًا واسعًا للمناورة عبر استجلاب معارك حصص ونفوذ مركزيًا وتكريس المزيد من التفرّد والهيمنة لامركزيًا.
لا يمكن لأيّ حلّ إلّا أن ينطلق من الرؤية الشاملة لطبيعة وعمق المشكلة. فتفكيك الخروق لمفهوم الدولة الحديثة يتطلّب: بناء دولة العدالة الاقتصادية-السياسية-الاجتماعية، تعزيز القناعة بأهمّية المبدأ الأساس للعقد المؤسّس للدول، المواجهة السياسية والرفض الدائم لتأثيرات السلاح على الحياة السياسية والعامة. من واجب القوى التقدّمية أن تسعى نحو الحلّ المستدام عبر إقامة وتكريس الدولة الحديثة مقابل الدولة القروسطية التي تجهد القوى الطوائفية المهيمنة إلى تكريسها.