عاد مطلب "الانتخابات النيابية المبكرة" إلى الواجهة مؤخراً، وذلك بعد تراجع زخم السيرورة الثورية بشكلٍ عام لثلاثة أسباب رئيسية. السبب الأول يتعلّق بالقيود والتباعد الاجتماعي بسبب الوضع الصحي العام الذي فرضته جائحة فيروس "كورونا"، والذي انعكس سلباً على الشارع المنتفض وعلى قدرة التنظيمات والمجموعات الثورية المعارضة على التعبئة الجماهيرية وتطوير العلاقات السياسية، مما تسبّب في انحسار رقعة الانتفاضة الشعبية حتى انتهائها. السبب الثاني يرتبط بالحراك السياسي المعادي للثورة، أي حراك "الثورة المضادة" من قبل قوى النظام الأوليغارشي ذات الطابع الطائفي/الزعاماتي، وهو يتمثل بالمحاولات الحثيثة لتعزيز الانقسامات العمودية من جهة (ثنائية 8 و14 آذار وما تعنيه من تبعيةٍ تامة لأجندات خارجية وارتباطات معادية لمصالح الشعب اللبناني، وخطاب المناصفة الطائفية، وخطاب الفدرالية والكانتونات الطائفية.. الخ)، كما وأنه يتمثل، من جهةٍ أخرى، بالمناورة السياسية لحكومة دياب، فهي حكومة تمثل قوى النظام تماماً، وليست حكومة "تكنوقراط" مستقلين، وقد ثبت هذا الأمر بالملموس، بالإضافة إلى تصاعد وتيرة القمع الممنهج الذي تمارسه أجهزة الدولة والميليشيات معاً بحق الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشاً. أما السبب الثالث فهو عضوي، يتّصل بمحدودية فاعلية العامل الذاتي، وهو العامل الحاسم في تطوير السيرورة الثورية واتخاذها طابعاً برنامجياً ثورياً وتأسيسياً، متماسكاً، يحقّق اتحاد قوى الثورة ضمن مشروعٍ متكامل ورؤية شاملة وجذرية للمجتمع والدولة تخلو من الوصولية والانتهازية والطموحات الفئوية.
لم يكن ينفصل مطلب الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة بشكلٍ عام عن الجانب الإصلاحي لمطالب انتفاضة 17 تشرين، لقد كان يصبّ ضمن الأهداف المرحلية لدى بلوغ الانتفاضة ذروتها، لكن فقط إذا نظرنا إليه ضمن سلةٍ متكاملة من الأهداف الإصلاحية السياسية والإدارية التي تحمل بعداً بنيوياً من شأنه إحداث تغييرات في بنية وطابع النظام السياسي والاجتماعي، أي أنه مطلبٌ "مكمِّل" للقانون المدني الموحّد للأحوال الشخصية، والقانون الخاص بالأحزاب السياسية، وقانون اللامركزية الإدارية الموسّعة، والأهمّ من كل هذا، قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي. لم يكن ينفصل مطلب الانتخابات النيابية المبكرة عن روحية انتفاضة 17 تشرين، لكنه كان مشروطاً بشكلٍ مسبق من قبل معظم الفعاليات السياسية للانتفاضة، وهذا الشرط أساسي، ولا يمكن تخطيه، أو تجاهله، بـ: قانونٍ انتخابي نسبي خارج القيد الطائفي، وبتشكيل حكومةٍ مستقلّة من خارج قوى المنظومة تعمل على إدارة الأزمة الاقتصادية بما يحقّق مصلحة الطبقات الشعبية ويقتصّ من جميع من راكموا الثروات الطائلة على حساب الشعب اللبناني، وهي حكومة تملك صلاحيات تشريعية استثنائية، وتقوم بمهمة الإدارة الشفافة للانتخابات المبكرة استناداً إلى القانون الانتخابي العادل وغير الطائفي. فلماذا تقوم القوى المطالبة بإقامة انتخابات نيابية مبكرة بتجاهل هذه الشروط، خاصةً بعد التحولات الكبيرة التي طرأت على موازين القوى بعد خمود الانتفاضة الأولى؟
لقد بات واضحاً أن حكومة دياب تمثّل قوى المنظومة ومصالحها، بل أنها مرآة لها، تعكس جميع خياراتها واتجاهاتها، وأفضل ما يمكن أن "تنجزه" هو "تمشيط شعر" ناهبي ثروات الناس والزعامات المجرمة، عوضاً عن "قصّ شعرها" - أو رؤوسها. وفي الآن ذاته، يتّضح أكثر فأكثر أن بعض القوى السياسية التي أعلنت تموقعها في خندق الثورة، مثل "حزب الكتائب اللبنانية" و"حزب سبعة"، تنفرد بمطلب "الانتخابات النيابية المبكرة"، دون الشرط المسبق المتمثل بالقانون الانتخابي، بل انطلاقاً من القانون الذي تفصّله قوى المنظومة على قياسها. يحاول هذين الحزبين الحشد والتعبئة الفئوية تحت هذا العنوان، ليتأكد التفافهما على انتفاضة 17 تشرين وعلى مطالب الناس المنتفضة التي لم تعد ترى، منذ ذلك التاريخ، جدوى من استمرار الحياة السياسية خارج مجتمعٍ انتفاضي يتخطى الستاتيكو السياسي الطائفي. وهذه العملية السياسية معقّدة، لكنها بالغة البساطة في التوصيف العام: التغيير الفعلي يبدأ من "أسفل" وليس من "فوق"، وذلك عبر استكمال المسار الذي أسست له الانتفاضة وليس عبر تجاوزه وإحداث القطيعة معه، وهو مسار البناء الديمقراطي القاعدي واللامركزي، وخلق المشروع البديل المتكامل، وتكوين النقيض السياسي التامّ لسلطةٍ تملك فائضاً من القوة السياسية والأيديولوجية والميليشياوية والمالية، فائضٌ يسمح لها أن تتحكّم أكثر بمجتمعٍ يزداد هشاشةً بعد فقدانه لشبكات أمانه الاجتماعية المستقلّة.Bottom of Form
إن محاولات التجديد لشرعية قوى المنظومة الحاكمة، بعد أن فقد النظام السياسي شرعيته منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين، وذلك من خلال مساوماتٍ انتخابيةٍ باسمِ الثورة، لا يمكن أن تمرّ دون مقاومة. إن هذه الاتجاهات الفئوية التي تزعم الانتماء إلى الثورة بمفهومها الواسع، تنظر إلى الحياة السياسية بعين السلطة الحاكمة لا بعين الناس الذين ضاقوا ذرعاً بهذا النظام ودينامياته الرجعية والمتخلّفة، وتُفكّر في المسار الانتقالي بعقلِ السلطة الحاكمة، وهو عقلٌ يُخضِع العملية السياسية للتفسير الميكانيكي ويضع "إتيكيت" دستورية طبيعية لعملية التغيير السياسي في ظروف غير طبيعية، فهو لا يرى في الثورة كعملية تغييرٍ شاملة كل المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية إمكانيةً واقعية، بل يعتبر طورها العفوي المتمثّل بالانتفاضة "فرصةً" للوصول إلى الهدف. بينما يؤسّس الاتجاه الثوري لعكس ذلك تماماً، ولا يعتبر الانتخابات التي تُقام مرةً كل بضعة أعوام، هدفاً قائماً بحد ذاته ولا مدخلاً وحيداً للتغيير السياسي، كما أنه يجد في الانتخابات، في ظلّ ظروفٍ مناسِبة لخوضها بالطبع، وسيلةً لتعزيز الوعي العام وتثويره، وتنظيم القوى الاجتماعية باتجاه صناعة تاريخٍ جديد، أي تاريخٍ يبدأ على أنقاض حكم الأوليغارشية والطوائف. فكيف يمكن لمثل هذا التاريخ أن يبدأ عبر انتخاباتٍ تديرها وتحدّد قوانينها قوى المنظومة بينما هي تُحكِم قبضتها الأمنية والزبائنية على رقاب الناس والطبقات الشعبية؟
الشرعية الوحيدة التي نعرفها منذ تاريخ 17 تشرين 2019 هي الشرعية الثورية، بعدما احتلّ اللبنانيون/ات الساحات لأشهر عديدة وقاموا بالتصويت يومياً، بأصواتهم الحقيقية الصادرة عن حناجرهم الغاضبة، على ضرورة "إسقاط النظام الطائفي"، أي تخطّي نظام الأوليغارشية اللبنانية المتحكّمة بالدولة والثروة، وإنهاء الانقسامات التي يتسبّب بها هذا النظام، كونها تغذّيه وتعيد إنتاجه باستمرار. لا يمكن لأي مسارٍ انتقالي ديمقراطي أن يكون حقيقياً في ظلّ حكم الأوليغارشية، فهذا الحكم السياسي يتناقض في الجوهر مع أسس الديمقراطية، وما الديمقراطية "التوافقية" سوى شكلٌ آخر من أشكال السيطرة والإخضاع للناس. على أي قانونٍ انتخابي أن يحظى بالشرعية الثورية قبل أي شرعيةٍ أخرى، وعلى أي انتخاباتٍ نيابيةٍ مبكرة أن تستند على قانونٍ انتخابي يحظى بتلك الشرعية الثورية.