رائد بو حمدان - بين واقعية المقاربة وجذرية الطرح... أي برنامج سياسي اقتصادي نطرح؟
15 ايار 2020
في احد أيام الحماس الثوري (١٦ تشرين ثاني) أرسلت الى احد الرفاق طالباً رأيه حول ما كتبت في مقالة كان من المفترض نشرها على مدونة لحقي(١)... كان في المقالة الجملة التالية: "الانتفاضة بالمعنى السياسي ستنتهي بانتصارات إضافية وانجازات نوعية... لكنها ستنتهي!" وكان للصديق تعليق شرس: "الانتفاضة سوف تنتهي؟؟! من وين جايب هالسوداوية، مش وقت تهبيط حيطان!".
غيّر التعليق يومها بنص المقالة، لكنه لم يغيّر قناعتي بأن الثورة ليست لحظة رومانسية بل هي تراكم سياسي اجتماعي واستمراريتها وتطورها أكثر ما يحتاج الى الواقعية.
فالواقعية آنذاك، كانت تعني توقع مرحلة ما بعد خفوت الحماس الشعبي بهدف الإستثمار في لحظات الذروة الثورية للانتظام والتنظيم وانخراط الثوار في مشاريع سياسية قاعدية تغييرية، نقابية قطاعية طلابية مناطقية، تحضيراً الى الجولات المقبلة من المواجهة مع المنظومة.
اين نحن اليوم؟
الناس عالقون بين مطرقة الفايروس والحجر الصحي، وسندان الجوع وحجز الأموال في المصارف... نشعر بالإحباط وفقدان القدرة على التأثير والقلق من المستقبل، وشعور مريب بالرضى عن مساواة المرض مقارنة بلامساواة الجوع، كأننا نتمنى الا تنتهي حرب كورونا التي لا تميز بين غني وفقير، فندخل الحرب بمواجهة الوضع المعيشي حيث المعاناة من فروقات طبقية ولاعدالة اقتصادية.
المنظومة الحاكمة - السياسية والمالية - استوعبت الصدمة وهي اليوم تدير الأزمة وتعمل على تأمين هبوط آمن للانهيار المالي والاقتصادي (soft landing) من خلال امتصاص الغضب الشعبي والعبور بأقل اضرار سياسية عبر العمل على ٤ خطوط متوازية:
1- التسويق الذكي للحكومة وإجراءاتها وخطتها مترافقاً مع الاستعراضات القضائية تحت عنوان مكافحة الفساد، والترويج لحكومة المنظومة والمصارف على انها مختلفة واصلاحية وتقدم أفضل الممكن وتستأهل الفرصة من جديد.
2- استعادة انقسامات المرحلة الماضية الطائفية والفئوية بين ٨ و١٤ آذار ومحاولة ضرب الانقسام الحقيقي الذي رسمته ثورة تشرين بين كل الناس المتضررين (٩٩٪) وكل المنظومة الحاكمة (١٪).
3- ضرب قدرة الثوار على تحريك الشارع من خلال القبضة البوليسية والاستدعاءات والتوقيفات والتضييق الأمني والسياسي والتحريض والتخوين الذي تقوم بها أجهزة الامن والمخابرات وقوى الأمر الواقع السياسية.
4- هندسة مالية واقتصادية جديدة (تنتظر مباركة صندوق النقد الدولي) تحمل الناس تكلفة الأزمة واعباء الانهيار وتجنبها لقوى المنظومة السياسية والمالية بكبار متموليها ومصارفها ومحتكريها وصرافيها ممن راكموا الثروات طوال ٣٠ عام، ثم راكموا ثروات إضافية خلال مرحلة الازمة من المضاربة على الدولار وتهريب الأموال، واليوم يسعون لهندسة مرحلة جديدة من سلب أموال الناس الى جيوبهم.
قوى الثورة بتنوع توجهاتهم ومقارباتهم وتموضعهم، يعانون من ارتفاع منسوب التوقعات - ما يصنع الاحباط - ومن التفاوت في مقاربة البرنامج الذي يحدد مسار المرحلة المقبلة. وهنا يمكن تقسيم مكونات الثورة الى ٣ أجزاء:
1- بعض مجموعات وقوى وأحزاب الثورة تعاني من الانسلاخ عن الواقع وعن نبض الناس وهمها المعيشي اليومي وتفتقد لمشروع تغييري سياسي واضح، فتهرب من عجزها على مقاربة الواقع الى الامام باتجاه طروحات "التوحيد" و"تحضير اللوائح الانتخابية" التي قد تحمل بفراغها النهايات الحزينة للمسار الثوري.
2- بعض المجموعات تمتلك الرؤية السياسية والمنهجية المطلوبة للعمل التغييري ولكنها تعاني من القدرة على الوصول الى أكبر عدد ممكن من الناس (وحتى الثوار) وبالتالي تعاني من الصوت المنخفض بتقديم طروحاتها.
3- الكثير من الثائرات والثوار المستقلات والمستقلين الذين يشعرون بتوقف ادوارهم/ن مع توقف التحركات الشعبية في الشارع. هذه الفئة ان تنظمت في مجموعات وحركات سياسية ونقابية وقطاعية قاعدية سترفع من قدرة المجموعات على الانتقال بمشروع التغيير والثورة نحو الجولة القادمة من المواجهة مع المنظومة الحاكمة.
ماذا نريد؟ أي برنامج نطرح؟
لأننا نرفض خطط الترقيع التي تطرحها الحكومة والإجراءات الأنية التي تؤجل الأزمة ولا تعالجها، ونرفض الاستدانة ومراكمة ديون اضافية من دون محاسبة المسؤولين ومن دون اجراء تغييرات جذرية في عقلية النظام الاقتصادي والسياسي، علينا ان نعيد طرح "ماذا نريد" في خارطة طريق بديلة تقدم معالجة جذرية لأزمات النظامين الاقتصادي والسياسي وتضع لبنان على مسار التغيير الفعلي من خلال برنامج مرحلي بشقين: اقتصادي وسياسي
أولاً: التوزيع الاجتماعي العادل لكلفة الأزمة الاقتصادية:
نريد خطة انقاذ اقتصادية مالية منحازة للناس(٢)، خطّة تقارب الاقتصاد من منظار المجتمع وليس من منظار صندوق النّقد والدّول المموّلة، وتكون مرتكزة على ٦ أسس بديلة:
١- استرداد أرباح الفوائد المتراكمة وأموال الهندسات الماليّة والأموال المختلسة والمهرّبة، والأملاك العامّة المسروقة على مدى ثلاثين عام، وشطب جزء من الدَّين العامّ والخاصّ، ما يؤمّن أموال بالعملات الأجنبيّة لتخفّض سعر الصّرف؛
٢- حماية مدّخرات النّاس وتحرير أموال أصحاب الودائع الصّغيرة والمتوسّطة والحفاظ على القدرة الشّرائيّة للطّبقات الفقيرة والمتوسّطة لتجنيبها كلفة الأزمة وتخفيف أعباء التّضخّم عليها؛
٣- استثمار في المرافق العامّة والبنية التّحتيّة لخفض نسب البطالة، وإقرار سياسات حماية لليد العاملة؛
٤- كسر الاحتكارات وضبط الأسعار، وحصر استيراد الموادّ الأوّليّة بيد الدّولة، وتوقيف المشاريع المعادية للبيئة؛
٥- استثمار في الرّعاية الاجتماعيّة والصّحّيّة لنستطيع مواجهة المخاطر الصّحّيّة والاقتصاديّة القادمة؛
٦- تحرير سعر الصّرف بعد الانتقال من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد منتج يزيد القدرة التّنافسيّة للإنتاج الوطنيّ، لكن تحرير سعر الصّرف الآن كما تقترحه الحكومة يعيق الوصول إلى اقتصاد منتج ويزيد من مستويات الفقر والبطالة.
ثانياً: الانتقال السياسي من النظام الطائفي نحو الدولة المدنية:
ان أية معالجات اقتصادية نقدية او مالية، ان لم تكن مرتبطة بتحول جذري في النظام السياسي فهي ستضع البلد في دوامة تعيد انتاج نفس الأزمات الاقتصادية والسياسية. ذلك ينطبق أيضاً على طرح انتخابات نيابية مبكرة (او في وقتها) فهي ان انتجت زيادة في عدد النواب من خارج أحزاب المنظومة، فلن تصنع التغيير الجذري المنشود في النظام السياسي الذي يفرض علاقة رعوية بين الناس والقوى المهيمنة ويضمن حضور القوى الطائفية كوسائط بين الافراد والدولة.
من هنا، نريد سلة إصلاحات سياسية(٣) تؤمن تحويل النظام السياسي من النظام الطائفي الى الدولة المدنية:
- تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة وصلاحيات واسعة للمحافظات والأقضية واتحادات البلديات
- قانون مدني للأحوال الشخصية
- قانون خاص بالأحزاب السياسية
- قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي بدوائر المحافظات السبعة (في قانون اللامركزية أعلاه)
- قانون استقلالية القضاء وشفافيته
دائماً: في كيفية الانتقال: الانتظام والتنسيق في القواعد
لا يمكن فرض أي مسار تغيير سلمي الا من خلال فرض موازين قوى سياسية تحول الضغط الشعبي والقوة الكامنة في غضب الناس الذي انتجه وسينتجه الانهيار الاقتصادي الى قوة سياسية قادرة على فرض برنامج الانتقال السياسي والاقتصادي. ولا تستطيع المجموعات الثورية ان تحافظ على الزخم الشعبي في تحركات الشارع وان تراكم القوة الشعبية الناتجة عنها دون انتظام أكبر عدد ممكن من الناس حول مصالحهم الفعلية في النقابات والتجمعات المهنية، في الاحياء والقرى والمدن، في حملات وروابط الدفاع عن الحقوق، وفي حركات سياسية تغييرية تحمل رؤى وبرامج واضحة.
كما للتنسيق والائتلاف حول البرنامج بين مجموعات الثورة ان يزيد من حجم القوة السياسية المطلوبة، لكن أية اطر تنسيقية او ائتلافية ستسقط بضربة المنظومة الأولى ان لم تراعِ مبدأ اللامركزية ولم تنطلق من القواعد (أي ساحات وخيم الثورة في المناطق ومجموعات الثوار في القطاعات والاغتراب).
عليه، ليكن الانتظام والتنسيق مبنيان على مقاربة سياسية ومنهجية عمل تحاكيان قيم ثورة تشرين وتراكمان على مكتسباتها.