ميسم بو ذياب - اتركوا زعماءكم و انهضوا
22 تشرين ثاني 2019
بالعودة الى ايامٍ قليلة قبل السابع عشر من تشرين الاول من هذا العام، كان لبنان عبارة عن كتلة نيرانٍ تنهش جسده، واستمرت لأيام بسبب اهمال السلطات المتعاقبة. هذا المشهد وحّد الناس لإطفاء الحرائق والحفاظ على ما تبقّى من مساحةٍ خضراء لم يطلها جشع الكسارات، في حين كان نائباً يتساءل لماذا تطال الحرائق مناطق طائفةٍ معينة؟ ووزيرا يتهجّم على متطوّعين بعد فشل محاولة استغلاله لجهدهم، لتقوم قاضية بعدها باستدعاء ناشطة، ثم تتراجع، في تمادٍ واضح على الحريات، اذ اعتُقل العديد من الناشطين في السنوات الاخيرة، بسبب آرائهم، هذا ان لم تلفّق لهم تهمٌ وصلت الى حدّ العمالة، وكأننا في نظامٍ بوليسيٍ قمعيٍ.
وبعد كارثة الحرائق بيوم، اعلنت الحكومة نيّتها زيادة الضرائب، والتي كانت ستطال الطبقات الفقيرة، متناسيةً الفاسدين والمتعدّيين على الاملاك العامة والمتهرّبين من الضرائب، وكانت الوقاحة بالضريبة على "الواتس اب"، فالضريبة تكون مقابل خدمة تقدمها الدولة، فما الخدمة التي تقدمها في الواتس اب، وهو تطبيق مجاني عالمياً؟
كانت هذه النقاط المباشرة التي فاضت بها الكأس، بعد ان امتلأت من جراء الأزمة الاقتصادية، التي لها الأثر الاكبر في تسارع الاحداث، فالاقتصاد هو الموجّه الأساسي المؤثر في السياسة، فبعد ثلاثة عقودٍ من الفساد والهدر، و مع اقترابنا الى المئة مليار دولاد دين، وعشية الذكرى السادسة و السبعين للاستقلال، ما زلنا دون ادنى مقوّمات البنى التحتية، ومع تراجع تحويلات المغتربين بسبب تباطؤ الاقتصاد عالميا، و مع العقوبات الاقتصادية وشروط الاصلاح لاي قروضٍ دولية جديدة، لم يعد هناك ما يكفي للزعماء للاستمرار بنفس النهج و تلبية حاجات مناصريهم، والتي هي بالأساس حقوقٌ صادروها لتقوية نفوذهم و تحكّمهم بالناس.
و كانت ثورة... و كان ليل السابع عشر من تشرين زلزالاً حقيقياً هزّ عروش السلطة و ما زال يخلخلها، زلزالاً احدثته الاكثرية الصامتة التي انتفضت اخيراً، هذه الاكثرية التي قاطعت الانتخابات الاخيرة بنسبةٍ كبيرة، ومنها من صوّت للمعارضة المتشكّلة جديدا والتي اوصلت نائبا و كانت قادرة على ايصال اكثر لولا القانون المفصّل على قياس اهل السلطة، وبمواجهة مالهم السياسي وتوظيفاتهم المخالفة للقانون قبيل الانتخابات وقواهم الغير شرعية وترهيبهم للناس في غير منطقة.
هذه الاكثرية، ما عادت صامتة، وبالاضافة الى المناضلين اللاطائفيين الذين رفعوا اصواتهم مع الربيع العربي في حراك اسقاط النظام، ثم الحراك بوجه ازمة النفايات، وما بينهما في كلّ المحطات المطلبية دفاعا عن الحقوق، باتت تضمّ اليوم الكثير من مناصري احزاب السلطة، المؤمنين بمبادىء احزابهم والمعترضين على نهجها وتحوّلها الى مشاريع زعامات فردية، فمناصرو الاحزاب المبدأيون منهم، مكانهم الطبيعي في طليعة الثورة، كما كان عليهم ان يصوّتوا خلافاً لأحزابهم في الانتخابات النيابية المنصرمة، ومنهم من فعل ذلك، والكثير منهم خروجوا ايضاً اليوم عن وصية قياداتهم في انتخابات نقابة المحامين الاخيرة، لإيصال نقيبٍ مستقلٍّ.
فمبادئ الكثير من الاحزاب، خاصة اللاطائفية، تقتضي من المقتنعين حقاً بها، العمل على ايصال بديلٍ وطنيٍ لا طائفيّ الى النقابات والى البرلمان، ليستقيم العمل النقابي والتشريعي، الذان يجب ان يهتمّا بحقوق الناس ولا يكونا ادواتٍ في يد الزعماء، و الاهمّ لدفع احزابهم الى استعادة خطابها الوطني والخروج من مستنقع الطائفية السياسية، واطلاق حملات اصلاحٍ داخلية. امّا بقاء الخطاب الطائفي فسيبقينا في نفس الدوامة من خلافاتٍ وهمية تارةً واتفاقاتٍ سياسية، اساسها تقاسم المغانم، طوراً.
فتحية لمن اختاروا ضميرهم حين خيّروا بين احزابهم وضمائرهم، و للذين ما زالوا متردّدين نقول لكم ان اوجاعكم اوجاعنا ومعاناتكم معاناتنا، اخلعوا عباءات طوائفكم ، اتركوا زعماءكم وانهضوا، تمسكوا بمبادئكم، فمعظمها تريد وطناً حقيقياً و عيشاّ كريماّ، وتذكّروا تاريخكم وتاريخ ابائكم فمنهم من ناضل واستشهد لا لزعيمٍ بل لقضية، انهضوا لنصرة قضاياكم واستعادة حقوقكم، تحرّروا من هواجسكم، فلا يحمينا الّا دولة القانون والمؤسسات، دولة اساسها الحرية والعدالة و المساواة والديمقراطية، وحصانتها وعي الناس لحقوقهم ومحاسبتهم للمسؤولين، واستعدادهم ان يثوروا حين تدعو الحاجة.
اتركوا زعماءكم و انهضوا... انضمّوا الى الثورة التي أوقدت جمر الغضب من تحت رماد الطائفية، ولا تصدّقوا خدع التهويل الطائفي و حجج المخاطر الداخلية والخارجية، فمن يخيفكم من الآخر عاجزٌ عن حمايتكم من الحرائق ومن فيضانات الامطار، ومن الرصاص الطائش، وعاجزٌ عن حماية رواتبكم و اموالكم و جنى عمركم، فممّا و كيف يحميكم بعد ؟
كونوا في هذه الثورة، كونوا في طليعتها، ثورة الاستقلال الحقيقي عن استغلالهم وعن ارتهانهم للخارج....
ثورة اشتعلت بعد ان استمدّت شرارتها من النيران المؤلمة والمتكررة كل عام.
ثورة امتدت الى كافة المناطق، فجميعها متألمة، ولم و لن يستطيعوا ايقافها لانها جمعت غالبية ساحقة من اللبنانيين.
ثورة صرخت بعد الاختناق من حريق النفايات ودواخين معامل الكهرباء والباطون وغبار الكسارات.
ثورة اطلقت اوجاعها من التسمم بالغذاء الملوّث والمياه المختلطة بالمياه الآسنة والدواء المزوّر.
ثورة انفجرت في الساحات لضيق المساحات والحدائق والتعديات على الشاطىء وعلى الانهار.
ثورة جائعة للتغيير لتفادي الجوع ولوقف النهج الاقتصادي المدمّر الذي غيّب النمو وفرص العمل.
ثورة فاضت بدموع الوداع والهجرة المتزايدة لشباب لم يكن امامهم سوى الرحيل.
ثورة ملأ ضجيجها العالم باصوات المغتربين، مؤكدين انهم ليسوا منتشرين فالكثير منهم هجّرهم هذا النظام.
ثورة التقطت انفاسها ونهضت كي لا تشاهد مريضا اخر يلفظ انفاسه الاخيرة على ابواب المستشفيات.
ثورة لتعليم رسمي جيد كي لا يضرم اباً آخر النار في جسده لعدم قدرته سداد اقساط المدارس الخاصة.
ثورة نساء ضد التمييز والاسفاف من قبل مسؤولين واعلاميين.
ثورة ضد العنف الاسري كي لا تموت نساءٌ اخريات و يبرأ المجرمون.
ثورة جمال مرج بسري ووادي جنة وجبال عين دارة، بوجه بشاعة السدود والكسارات ومعامل الاسمنت.
ثورة تقول للمسؤول " ما تسمّعنا صوتك " و" نحن النهر الجارف" لتذكّره انّه موظفٌ في خدمة الشعب.
ثورة الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي بوجه سجلّات النفوس واوراقها الصفراء المهترئة الممزّقة.
ثورة ناس تعشق ارضها و تستشهد دفاعا عنها كما فعل شهيدنا البطل سليم ابو مجاهد.
ثورة الاخلاق بوجه السارقين والزعران، والتي استشهد لاعلائها بطلنا حسين العطار.
ثورة الاندفاع و البطولة والدفاع عن مستقبل اولادنا، التي استشهد لاجلها بطلنا علاء ابو فخر.
ثورة حطّمت اصنام المعتقدات الاجتماعية التي بنت اصناماً سياسيةً وقدّستها.
ثورة المقدّس الاوحد فيها، حقّنا بالعيش الكريم، حقّنا بالحرية و الديمقراطية، حقّنا بالعدالة الاجتماعية.