ماهر أبو شقرا - أية مقاومة نريد؟ وكيف نواجه المارقين؟
28 آب 2019
... عن المقاومة الشعبية للاحتلال
تشكلت المقاومة الشعبية الفرنسية ضد الاحتلال النازي وضدّ حكومة فيشي المتعاونة معه خلال الحرب العالمية الثانية من رجال ونساء من جميع الشرائح والطبقات الاجتماعية والتوجهات السياسية. عمال وفلاحون، طلبة وأساتذة، مهاجرون وبرجوازيون ومحافظون كاثوليك ورجال دين، وشيوعيون وليبراليون وأناركيون وغيرهم، تداعوا وانتظموا بمقاومة شعبية عسكرية ومدنية ضد الاحتلال. إن هذا التداعي العفوي، وهذا التنوع، هو الذي جعل المقاومة الشعبية الفرنسية تعبيراً صادقاً عن المجتمع الفرنسي وعن رغبته بتحرير الأرض...
"يا رجال ونساء لبنان من كل الطوائف والمناطق والاتجاهات، أيها اللبنانيون الحريصون على لبنان بلداً عربياً سيداً مستقلاً، إلى السـلاح تنظيماً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال وتحريراً لأرض لبنان من رجسه على إمتداد هذه الأرض من أقصى الوطن إلى أقصاه." مقطع مقتطف من البيان التأسيسي لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية: دعوة من أحزاب لبنانية لجميع المواطنين والمواطنات للانخراط في مقاومة الاحتلال تنظيماً وتسلحاً لتحرير الأرض والإنسان. مثال آخر على المقاومة كقضية، وكمحاولة للتعبير عن إرادة الوجدان الجمعي للمجتمع والناس بتحرير الأرض من دنس الاحتلال.
وعلى الرغم من أن المقاومة الشعبية لم ترتدِ في يوم شكلاً أو نمطاً واحداً على مرّ الزمان، غير أنّه ثمة سمتان أساسيتان تميزان معظم حركات مقاومة الاحتلال عبر التاريخ. السمة الأولى هي أنها انتظام شعبي عفوي أو شبه عفوي من اتجاهات متنوعة ومختلفة ضدّ احتلال عسكري أو نظام عسكري قمعي. السمة الثانية هي أنها تزول بزوال شروط وجودها، أو يتحوّل دورها ويتشرعن ضمن المؤسسات المعتمدة والمتفق عليها. المقاومة الفرنسية، على سبيل المثال، بعد زوال الاحتلال تحوّلت إلى نواة القوات العسكرية لفرنسا الحرّة...
هل حزب الله اليوم مقاومة؟
أمسى اختزال المقاومة بحزب الله من بدهيات الخطاب السياسي في لبنان والمنطقة. وهذا الاختزال إنما اكتسبه الحزب، ليس فقط من آلاف العمليات ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، إنما أيضاً من البروباغندا الممنهجة عبر ماكينة الإعلام الحربي التي يمتلكها. يضاف إلى ذلك الالتفاف الشعبي الكبير حوله، والذي عززته القوى المناهضة لحزب الله من خلال الخطاب الضدّي الخالي من أي طرح سياسي جدّي، والضدّية تغذي الضدّية، وهكذا كان...
إنما هل قتال الاحتلال يكفي وحده لاختزال تسمية المقاومة بحزب الله دون سواه؟ بإمكاننا القول، وبضمير مرتاح، أن حزب الله هو حزب سياسي قام بمواجهة إسرائيل، وأن نرفع لمقاتليه القبعة إجلالاً وامتناناً للتضحيات التي قاموا بها، إذا ما نحن قمنا بغض النظر عن مشروع الحزب السياسي والعقائدي، وعن ما إذا كان يقوم بالاستثمار السياسي للعمل المقاوم. لكن ثمة فارق كبير بين هذا القول، وبين أن يُختزل مفهوم المقاومة بالحزب. فبالاستناد إلى السمتين الأساسيتين اللتين تميزان حركات المقاومة كما ذكرنا أعلاه، إن أياً منهما لا تنطبق على حزب الله اليوم. فلا هو انتظام شعبي عفوي أو شبه عفوي من اتجاهات متنوعة ومختلفة للقيام بعمل مقاوم، ولا هو حالة انتهت أو انتظمت في المؤسسات الأمنية للدولة بعد زوال الاحتلال وتكريس 25 أيار من كل عام يوماً لتخليد ذكرى التحرير على غرار يوم الاستقلال.
إن تسويغ بقاء حزب الله كقوة مسلحة يرتكز بشكل رئيسي على فكرة أنه أثبت جدارته وقدرته على مواجهة إسرائيل، وبأن الجيش اللبناني لا يمتلك تلك القدرة، وبالتالي فإنه "إلى أن يصبح الجيش قادراً على المواجهة، سيحتفظ الحزب بسلاحه". غير أن هذا التسويغ ينفي نفسه بنفسه، إذ أنه ثمة تناقض مصلحي بين شطري الجملة الأخيرة: أي بين احتفاظ حزب الله بسلاحه وبين نمو قدرات الجيش. بمعنى آخر، فإن احتفاظ حزب الله بسلاحه يشترط منع الجيش من تطوير قدراته العسكرية. وبوجود الحزب في الحكومة، فإن هذا الأمر بالمتناول تماماً. يضاف إلى ذلك أن قدرات المقاومة تنمو أيضاً، بموازاة نمو قدرات الجيش وبوتيرة أسرع، بوجود الدعم الخارجي الكبير وغير المشروط إلا بشروط التبعية للنظام الإيراني. وبمطلق الأحوال، فإن بقاء حزب الله بوضعيته الحالية كحزب مسلّح يجعله يستحق تصنيفات مختلفة ما عدا تسمية المقاومة. وبوجوده في السلطة اليوم، لعل أكثرتصنيف ينطبق عليه هو ذراع عسكرية لأحد أقطاب السلطة، بيده قرار الحرب والسلم، وله تحالفاته الاقليمية والدولية المستقلة، وإمكانية التدخل الخارجي دون حسيب ولا رقيب.
مقاومة طائفية؟
أن تكون هناك مبادرةٌ للمقاومة ذات طابع طائفي أو إثني، أي أن يكون تكوينها محصوراً بطائفة معينة أو إثنية معينة، لا ينتقص من كونها مقاومة. لكن في حالات كهذه، يكون العمل المقاوم موجهاً ضدّ ظلم أو اضطهاد معين، كمقاومة السود للتمييز العنصري والاضطهاد، أو مقاومة حركات انفصالية لهيمنة دولة مركزية قمعية كنضال الأكراد على سبيل المثال لا الحصر، وهذا الشكل مشروع تماماً انطلاقاً من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها وهو مكرس في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. غير أن هذا لا ينطبق على وضع حزب الله اليوم بتاتاً، من منطلق أنه طرف حاضر بقوة في السلطة، وهو جزء من الدولة المركزية التحاصصية، أي من النظام اللبناني، وهو الطرف الأقوى في هذا النظام.
حزب الله حزب طائفي، وهو يختزل بنفسه المقاومة كتسمية. ولهذا الأمر برمته تبعات كارثية على المقاومة نفسها كمفهوم. هذا الاختزال المميت مؤداه تدمير الوعي المقاوم والعداء للمقاومة كفكرة وكمفهوم لدى كثر ممن هم في الموقع المناهض لحزب الله كحزب سياسي طائفي ذو مشروع عقائدي. ما من مقاومة دون أن تترافق مع التحرر الاجتماعي، فالمقاومة هي فعل لتحرير الأرض والإنسان، وإلا فهي استبدال للاحتلال بالهيمنة. وما من مقاومة تسعى لاسترداد ثمن العمل المقاوم سياسياً.
ما العمل؟ وكيف نواجه المارقين؟
ثمة ممارسة عسكرية موغلة في القدم اسمها الحصار. والحصار إنما يهدف إلى تجريد الشعب من قدرته على الصمود بحيث يرفض الاستمرار بالمواجهة. مبدأ الحصار يرتكز إلى فرضية أن للصمود مقومات وشروط هي شروط القدرة على الاستمرار بالحياة أثناء المواجهة. وإذا كانت الحرب والمعارك والحصار مؤقتة، فإن المواجهة المستديمة تتطلب بدورها تعزيز قدرة الناس على الصمود والاستمرار بالمواجهة. ينبغي أن يكون للناس بلد هم مستعدون للدفاع عنه، وشروط اقتصادية-اجتماعية هم مستعدون لحمايتها، وإلا فإن الهزيمة محتّمة حتى لو بلغت قدرات الدفاع ضدّ الغزاة مستويات فلكية. لا يدافع أحدٌ طويلاً عن بلدٍ شروط العيش فيه مجحفة. إذن يبدأ الاستعداد للمواجهة بتعزيز رفاهية الناس، وتحسين الشروط الاقتصادية-الاجتماعية بشكل كبير ووضع الكرامة الإنسانية فوق كلّ اعتبار عبر انتهاج سياسات اقتصادية عادلة.
لم ترتق الطروحات المتعلقة بوضعية حزب الله إلى الجدية اللازمة بشكل يقود إلى حلّ فعلي لوضعية الحزب الإشكالية. فبين الطروحات المدافعة عن سلاح حزب الله وتلك التي تطالب بنزعه، مروراً بطروحات ضبابية حول استرتيجية دفاعية ما، فإن جميع الطروحات تدور في فلك الكلام السياسي. وهو كلام غير هادف إلا إلى الاستثمار السياسي بموضوع سلاح حزب الله: إما دفاعاً عنه ومحاولة كسب تأييد شعبي مرتكز إلى خطاب الهيمنة والاستقواء، وأما هجوماً عليه وماولة كسب تأييد شعبي بالارتكاز إلى مظلومية بوجه مارد مهيمن ينبغي التضامن ضدّه. وسوى ذلك، ما من طروحات جدية تهدف إلى تصوّر الحل مع آليات لتطبيقه.
يكمن الوضع الإشكالي لحزب الله اليوم في وجود جميع المقومات التي تنفي عنه صفة المقاومة. فهو حزب من أحزاب السلطة وله ذراع عسكرية ودورة اقتصادية خاصة ومؤسسات وعوائل تعتاش منها وعلاقات خارجية. هو دولة بأتم معنى للكلمة. طاولة الحل ينبغي أن تشمل هذه الوضعية برمتها وبجميع جوانبها. ينبغي مقاربة موضوع حزب الله كجزء من مشاكل النظام اللبناني برمته، والذي إذا لم تتمّ إجراء تغييرات بنيوية فيه، فإن حالات مشابهة لحالة حزب الله ستتكرّر في المستقبل، وفي وقت قصير. وإذا كان حلّ هذا الوضع الإشكالي برمّته لا يمكن أن يتمّ بعملية واحدة دون تدريج، فإن الإلحاح والإسراع في القيام بإجراءات أولية أكثر واقعية من طروحات نزع السلاح الفوري هو المطلوب. وهذا يبدأ بطرح نقطة الانطلاق على طاولة الحل، وهي تحديد حزب الله لتموضعه الحقيقي والواقعي: إما أن يكون حزباً سياسياً وإما أن يكون قوة مسلحة ضدّ المارقين. أما الجمع بين الاثنين فغير مقبول وله نتائج كارثية على على مفهوم المقاومة نفسه الذي لا نريد له أن يتهافت، وأيضاً على العمل السياسي برمته: إذ تصبح أية مناهضة للحزب مناهضة للمقاومة أو تماهٍ مع العدو، فضلاً عن استخدام الموقف من المقاومة أداة للتأديب السياسي وللتخوين والتنزيه. وقائد المقاومة يصبح بسهولة أقوى من أي وجه سياسي آخر، إذا يمتلك حاضنة شعبية كبيرة وقوة عسكرية أقوى من القوات المسلحة الرسمية مجتمعة.
إذن، إما أن يكون حزب الله حزباً سياسياً، عندها يتم التعامل معه على هذا الأساس، ويتمّ الفصل النهائي بينه وبين أي نشاط عسكري، وينضوي عسكره النظاميون ومقدراته العسكرية في ألوية الجيش والقوى الأمنية الأخرى. أو أن يكون قوة عسكرية مسلّحة، فيتحوّل عندها إلى لواء شبه عسكري على غرار قوات حرس الحدود المعتمدة في دول متعددة، ويكون له ممثل في المجلس العسكري اللبناني. ويمتنع حزب الله عندها عن مزاولة أي نشاط برلماني أو وزاري وأي عمل سياسي يتداخل مع العسكر.
نقطة الانطلاق هنا هي إجابة عن سؤال يراود الكثيرين: أيهما أسبق عند حزب الله، المقاومة أم السياسة؟ بمعنى هل أن انخراط الحزب في السياسة هو لخدمة المقاومة كما يسوق حزب الله؟ أم أن المقاومة هي لخدمة مشروعه السياسي؟
ماهر أبو شقرا - أفكار في سبيل مشروع تغييري - لِحَقي