تخلّل تاريخ الحضارة البشرية ظواهر اجتماعية – سياسية مجبولة بالعنف، تمّ تصنيفها على أنها حالات من العصيان على سياسات الحاكم، فأدت إلى اضطرابات وثورات ساقتها حاجة الإنسان الواعي وتوقه الدائم إلى الحرية والعدالة.
وتاريخ الثورات تاريخ طويل وقديم قدم الحضارات، يمتد من الحضارة المصرية قبل حوالي خمسة آلاف عام إلى ثورة المدن السومرية، إلى الثورات الصينية، مروراً بالثورة الانكليزية وصياغة "الماغنا كارتا" في العام 1215، وصولاً إلى العصر الحديث واندلاع الثورة الفرنسية في العام 1789.
وقد اندلعت الثورة الفرنسية ضد النظام الملكي، وما لبثت أن تحوّلت إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي وتولّد عنها حقبة من الإرهاب والفوضى، وكان ذلك في ظلّ الجمهورية الفرنسية الأولى.
أُجهضت الجمهورية الفرنسية الأولى لتتحول فرنسا الى امبراطورية بقيادة نابليون الأول، لتسقط هذه الامبراطورية بدورها في العام 1814 (ثم نهائياً في العام 1815 بعد فترة المئة يوم التي عاد فيها نابليون من منفاه واستولى على الحكم مجدداً).
بعد الامبراطورية، التي حققت لفرنسا مكانتها الدولية كقوة عظمى، عاد الحكم الملكي مع لويس الثامن عشر، ثم خلفه شقيقه شارل العاشر الذي استمر في الحكم حتى ثورة 1830 التي أتت بالملك لويس فيليب الأول، واستمر هذا في الحكم حتى العام 1848 وهو تاريخ ولادة الجمهورية الفرنسية الثانية بقيادة نابليون الثالث كرئيسٍ للجمهورية.
ولم يتأخر نابليون الثالث كثيراً ليُحوّل فرنسا مجدداً إلى الحكم الامبراطوري ابتداءً من العام 1852 مُعلناً بذلك أفول الجمهورية الثانية.
بقي الحكم الامبراطوري في فرنسا حتى العام 1870 لينتهي مع هزيمة نابليون الثالث في حربه ضد ألمانيا بقيادة بيسمارك، ولتتحول فرنسا مجدداً الى جمهورية (وهي الجمهورية الثالثة).
ولو اعتبرنا أن الجمهورية الثالثة هذه كانت منطلقاً لاستقرار الأوضاع في فرنسا وأولى إرهاصات الديمقراطية والعلمانية الحديثة فيها، يكون قد مرّ بين تاريخ الثورة في العام 1789 وبين تاريخ نشوء الجمهورية الثالثة في العام 1870 سحابة 81 عاماً.
هذا وتُعدّ الثورة الفرنسية حدثاً تاريخياً هاماً ونقطة تحوّل في تاريخ فرنسا والعالم، وهي الرافد الأهم لثورات عديدة اقتدت بها ورفعت شعار "الحرية والمساواة والأخوة"، وهو الشعار الذي تبنّته وقامت عليه هذه الثورة ابتداءً.
تجارب ثورية وسياسية عديدة بدأت بالفشل، أو عاشت حالات التقلّب بين النجاح والإخفاق، نذكر منها على سبيل المثال تجربة حزب العمّال النازي، على مساوئها، التي تعثّرت في تحقيق انقلابها في العام 1923 بقيادة أدولف هتلر فأودت به الى السجن، ليعود الحزب بعد عقدٍ من الزمن ويكتسح في العام 1932 مجلس النواب الألماني (الرايخستاغ في حينها) بقيادة هتلر أيضاً الذي سيُمسي في العام 1933 مُستشاراً لجمهورية فايمار ويرمي العالم في أتون حرب راح ضحيتها عشرات الملايين.
كما نذكر أيضاً النضال في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، والذي تعود جذوره إلى فترة تأسيس الاستعمار الأوروبي في القرن السابع عشر، ثم تطور هذا النضال إلى حركة مقاومة خلال القرن التاسع عشر مع تنظيم مقاومة مسلحة ضد الاستعمار والتمييز العنصري، وصولاً إلى العام 1912 حين تأسّس الحزب الوطني الأفريقي الذي أصبح فيما بعد الجبهة الرئيسية للمقاومة.
وفي العام 1990 باشر المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا مفاوضات إلغاء قوانين الفصل العنصري وإطلاق سراح السجناء السياسيين، ثم أُجريت الانتخابات الديمقراطية الأولى في جنوب أفريقيا في العام 1994 وأدت إلى انتخاب مانديلا رئيساً للبلاد معلنةً بذلك نهاية الفصل العنصري بشكل رسمي.
كثيرة هي التجارب السياسية والثورية ومتنوّعة، منها ما أُحبط وأسدل التاريخ ستاره عليها، ومنها ما نجح من الطلقة الأولى، ومنها ما تأرجح بين انتصارات وهزائم، ومنها ما لا يزال غير محسوم التوجّه والنتيجة.
أردت بسرد هذه المقدمة التاريخية الموجزة - وليس الهدف منها استنساخ أية تجربة نضالية أو نقلها أو السير على هُداها - تحقيق هدفين اثنين:
الأول، هو الإضاءة على تجارب الشعوب ووجوب دراستها بتعمّق للاستفادة منها وتلافي شوائبها ما أمكن.
والثاني، هو التأكيد على أن لكل شعب مبرراته التاريخية، الموضوعية والذاتية، في إطلاق مسار نضاله نحو الحرية والعدالة، وله أيضاً أسبابه المباشرة وأعرافه وتقاليده وحضارته ومنظومة أفكاره ومعارفه التي تُعجّل أو تؤخّر تحقيق أهدافه.
والشعب اللبناني لا يشذّ عن هذه القاعدة، وقد عانى الأمرّين وما هو أمرّ منهما، ولا ادعي هنا أن هذا الشعب هو أتعس شعوب الأرض قاطبةً أو أشدّها بؤساً، لا بل تتفوّق عليه شعوب وشعوب في معاناتها وحرمانها من أبسط حقوقها، ولكن هذا لا ينتقص من حق هذا الشعب في السعي الى تحقيق مراده في الحرية والعدالة، ولا يحجب إرادته في العيش بكرامة ورفاهية واستقرار.
في السابع عشر من شهر تشرين الأول من العام 2019 انطلقت شرارة الثورة في لبنان، وربما كانت هذه الثورة أهم انعطافة في تاريخ هذا البلد منذ نشأته، فشكّلت مرحلة تأسيسية نفضت بعضاً من ركام الخوف والتبعية والارتهان ودفعت باتجاه الانتقال من مساحة زمنية إلى أُخرى أكثر تماشياً مع ما سبقت إليه شعوب أخرى.
صحيح أن أصالة هذه الثورة كانت موضع تشكيك واتهام وتأثيم وصولاً إلى التجريم والتخوين واستباحة دماء وأعراض ومصالح الأفراد والمجموعات المشغولين بها، ولكنها كانت حقيقية في نفوس قلّة ممن صدّقها وآمن بها.
لا ندّعي اليوم أننا، كناشطين سياسيين وكمجموعات وأحزاب سياسية تغييرية، نجحنا نجاحاً مكتمل الأوصاف والعناصر، ولكن الأكيد أننا حقّقنا نجاحات نوعية محدودة، سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى السياسي. نجحنا في استمالة بعض الشعب اللبناني وتعريفه على مفاهيم كانت غائبة عنه كالحرية والعدالة والديمقراطية، ونجحنا في تكوين قدرة متواضعة، ولكن مقبولة، على الاستقطاب من خلال نشوء أحزاب ومجموعات سياسية مُنظّمة وواعدة، ونجحنا في إيصال عدد من النواب الجدد إلى البرلمان ستكون تجربتهم خاضعة للتقييم والنقد والتقويم.
ولكننا، وبكل تأكيد أيضاً، فشلنا في مواضع عدّة، وفي معالجات ومواجهات معلومة الرقعة والحساسية، وهذا لا يُعيبنا ولا يُعيب نضالنا الفتي، ومعظمنا لا زال في الصفوف الابتدائية في العمل السياسي!
إنما الفشل ليس قدراً، بل هو جزء من التجربة السياسية، وهو منهج للتعلم إذا ما أحسنّا الاستفادة منه، هو فرصة تُتيح لنا فهم الأسباب التي أدت إليه وكيفية تجنبها في المستقبل. لذا، من المهم أن نفهم أن الفشل ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لرحلة جديدة.
ومن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، والتي يجب علينا التعامل معها، النقص في التنظيم، والانقسامات التاريخية في المجتمع اللبناني، الطائفية والاجتماعية، والتي تُعيق عملية الانتقال الديمقراطي السلمي، ووجود عناصر ضارة ومُعيقة في صفوف التوّاقين الى التغيير الحقّ، هذا دون إغفال استمرار هيمنة النظام القديم عبر استخدام العنف والقوة المُفرطة وعبر التلاعب بالأوضاع الإقتصادية والسياسية، ودون إغفال عامل أهم وهو عدم قدرة المجتمع على التغيير الجذري والسريع، حيث أن هذه العملية يلزمها استعدادٌ وتوجيه وعمل متواصل على صعيد زيادة منسوب الوعي وخلق البيئة المناسبة والفعالة لتحقيقها. وهذا ما عجزنا عنه نسبياً حتى اليوم.
ما هي إذن مقومات النجاح وما هو السبيل إليها؟
كيف سنتمكّن من الخروج من لوثة وقمقم الطائفية إلى فضاء التعدّدية والتنوّع وتقبل الآخر؟
كيف لنا أن نستفيد من التراكم الكمّي والقيمي مما حقّقناه؟
كيف سنواجه السلطة وما هي أدواتنا في المرحلة المُقبلة؟
كيف سنتحول من مُجتمع بليد خاضع إلى مجتمع حيّ ونشيط وفعّال؟
بادئ ذي بدء، من المهم بمكان الفصل بين "الثورة"، كصيرورة تاريخية وكحاجة مُلحّة لمعالجة الوضع السقيم والمتدهور، وبين المشاركين فيها من ناشطين ومجموعات وأحزاب سياسية، فالثورة على الأوضاع القائمة واجب، وهي في جوهرها موقف أخلاقي بامتياز، لا بل هي في صميم الأخلاق، هي انقسام حادّ بين من يؤيّد أو يُبرّر الفساد واختلاس المال العام والرشوة وصرف النفوذ والزبائنية والظلم ويستفيد من كل ذلك، وبين من يرفع شعارات المُساءلة والمُحاسبة والنزاهة والكفاءة والشفافية والحرية والعدالة والديمقراطية، ويعمل جاهداً على تحقيقها.
وهذا ليس بمثل ذاك!
وهذا الموقف الأخلاقي لا ينبع من حقدٍ أو من رغبةٍ في الإنتقام، ولا يجب أن يكون كذلك، بل من ضرورة المساءلة والمُحاسبة اللتان لا تحتاجان لتبنّيهما كنهج وهدف إلا إلى إعمال القليل من العقل والقليل من الحس السليم.
فمن يتوقّع أن الأمور ستنتظم دون مُحاسبة يكون واهماً، كما كنّا واهمين عشية انتهاء الحرب الأهلية عندما قال ملوكها، وردّدنا وراءهم، "عفا الله عما مضى".
من الممكن أن نتفهّم في حينها هذا المنحى من شعبٍ مُستسلمٍ مُنهكٍ من الحرب لا زال يتنشّق رائحة الدم والبارود، أما ما لا يمكن فهمه أو تفهّمه أو استيعابه هو أن يسعى البعض اليوم إلى ترديد هذه العبارة، صراحةً أو مواربةً، أو أن يعمل على أساسها عبر التحالف أو التنسيق مع وجهٍ من السلطة في مواجهة الوجه الآخر، في حين لم يتوانَ أو يتردّد الوجهان تاريخياً في تشكيل ما كان يُسمّى زوراً وبهتاناً بحكومات الوحدة الوطنية، هذه الحكومات التي أثبتت مع مرور الوقت أنها لم تكن سوى أداة فعّالة ووسيلة ناجعة لتحالف عصابات لا يبغى سوى تقاسم الغنائم، والاستمرار في استنزاف ما بقي من ثروات وما بقي من الدولة (أو "البقرة الحلوب" كما لقّبها الياس الهرواي في أواخر القرن الماضي).
كأننا لم نتعلّم شيئاً، وكأننا لم نستيقظ على دولة مُنهكة منهارة منهوبة خاوية من مؤسّساتها وعاجزة عن أداء وظائفها!
أما الحلول المتاحة للخروج من عنق الأزمة، ووضع مداميك وأسس الدولة الحديثة العلمانية الديمقراطية العادلة فهي محصورة جداً للأسباب التي ذكرناها حول العوامل التي أدت إلى فشلنا النسبي.
إلا أنه يمكن تحديد وتعداد بعض هذه الحلول ومُسبّبات النجاح بضرورة وضوح الرؤية والأهداف، وبالالتفاف حول مشروع سياسي واقعي مع رسم الخطط اللازمة لتحقيقه، وبتعزيز المهارات الشخصية نحو مزيد من الكفاءة في الأداء، وبالتعلم من الأخطاء من خلال التعامل مع الفشل كفرصة وليس كحتمية، وبتحليل أسباب هذا الفشل واستخلاص الدروس المُستفادة منه، هذا فضلاً عن التكيّف والمرونة ضمن حدود لا تؤدي إلى إجهاض المشروع برمّته، وصولاً إلى تسليم راية النضال والعمل الثوري إلى الأجيال الصاعدة وتشجيع الشباب على المشاركة في القرارات التي تؤثر على مجتمعهم ومستقبلهم.
يُضاف إلى ذلك بطبيعة الحال العمل على خلق الظروف المؤاتية لتأسيس الأحزاب الجديدة، وبناء التحالفات والجبهات السياسية العريضة والقوية والمتينة، الواضحة المعالم، والقادرة على المواجهة وعلى استكمال التغيير المنشود من خلال العمل بشكل فعاّل ومُستمر دون كلل أو ملل أو إحباط أو خوف.
وأخيراً أستعير قول "Georges Danton"، أحد أعلام الثورة الفرنسية، وهو على المقصلة متوجّهاً بالكلام إلى جلّاده:
« Tu montreras ma tête au peuple, elle en vaut la peine ».
مازن نصرالدين