يحدثنا ايكارت تول في كتابه " قوة الآن" عن اهمية الوعي وتحقيقه عبر التركيز على اللحظة الحالية وتجنب الغرق في ذكريات الماضي او احلام المستقبل، فلا يفيد الرجوع الى الماضي الّا لاستخلاص العبر، ولا يمكن تحقيق اي شيء في المستقبل الّا من خلال التركيز في اللحظة الحالية او الآن، خلاصات ايكارت تول قريبة جدا من التعاليم الشرق آسيوية وحتى الكثير من الفلسفة والتعاليم الدينية التي تدعو الى تغليب الوعي على الافكار والمشاعر التي تنتجها فلا نغرق في الآلام والاحزان ولا ننتشي بالفرح والانجازات فتغلبنا "الأنا" او "الايغو"
كذلك يستخلص الصديق ماهر ابوشقرا في كتابه " العقل، سفر في عالم مجرد"، ويدعو الى اعلاء الوعي فلا تجذبه الافكار، التي يولدها العقل، ولا الشعور الذي ينتج عنها، فيغرق في عالمها، كما يحث على التدرّب على ملاحظة تلك الافكار وتنقيتها لعدم الاكتراث للسلبية والغير منتجة منها، فتمرّ باقل ضرر ممكن، والتركيز عوضا على الافكار المنتجة التي تدعو للفعل والعمل، ويخرج ماهر من الاطار الفردي، التي ركزت عليه معظم الكتابات السابقة، الى الاطار الجمعي ليستخلص كيفية العمل على التغيير في المجتمع والسياسة...
و اليوم في لبنان، اذ نسمع خطابات الاحزاب التي سيطرت على السلطة، اقله منذ انتهاء الحرب الاهلية، نجدها جميعها تدغدغ الذكريات، فتمجّد القوة والبطولات والانتصارات تارةً، وتـأجج مشاعر الغبن والظلم والخوف بين انصارها طوراً، وهذه المشاعر تكون كفيلة بطمس الوعي الجمعي وبعدم ادراك حقيقة الصراع والتناقض في المجتمع، ليظهر انّه مجرد صراع طائفي سياسي بغية الحفاظ على وجود الطائفة وصيانة مصالحها، ولو غاب في طيّات هذا الصراع، الشبه وهمي، مصالح الناس وابسط حقوقهم ومقومات عيشهم.
واذا ما اردنا تغليب الوعي السياسي والتركيز على الافكار المنتجة وعدم الغرق في سراب مشاعر الظلم او نشوات القوة والانتصار، علينا ان نفكر باللحظة الحالية وما يمكن فعله، خاصة بعد تحركات الشارع التي تتوّجت بالمشاركة الشعبية الكبيرة في كافة المناطق اللبنانية ابّان ثورة 17 تشرين، وبعد ان ايقنّا ان هناك اكثرية صامتة، او اقله نسبة وازنة من اللبنانيين ممّن ضاقوا ذرعاً بهذه المنظومة الطائفية واحزابها وزعمائها، فقالوا لا عندما طفح الكوب جراء الازمة الاقتصادية، وهو الممتلىء اصلا من ملفات الفساد، السرقات، النفايات، الحرائق، السدود، والسلاح المتفلت ورصاصه الطائش او معاركه المتنقلة.
طبعا لا يمكن للثورة الاستمرار في الشارع الى ما لانهاية، فالناس تعبت ثم فرضت جائحة كورونا الحجر، الى ان وقعت جريمة انفجار المرفأ من السلطة ذاتها، فقتلت أهلنا ودمّرت مدينتنا، ليعود نبض الشارع قليلا. الّا انه من الطبيعي ان لا تحقق الثورة كل اهدافها في سنة او سنوات قليلة، خاصة في ظل نظام متعدد الاقطاب يسهل فيه تراشق التهم والتملّص من المسؤولية، اضف ان الثورات تحتاج لعقود لتصل الى تغيير جذري وتحقيق دولة مدنية علمانية، هكذا تعلمنا تجارب الثورات الاوروبية اقلّه.
فالتغيير عمل تراكمي، ولولا استمرار اصوات الاحتجاج حتى اثناء الاتفاق الدولي بعد الحرب الذي سلم البلد للنظام السوري، الى تحركات 14 اذار 2005 والمطالبة بالسيادة والحرية، وصولا الى حراك اسقاط النظام الطائفي 2011، مرورا بالمظاهرات النقابية، ثم الحراك ضد ازمة النفايات، لولا هذا الاعتراض واستمراريته لما وصلنا الى 17 تشرين، التي راكمت ايضا بانتظار محطاتٍ مستقبلية. وكما كان الضغط في الشارع اساسي للتصدي للمنظومة الحاكمة، كذلك كان النضال من خلال الانتخابات الطلابية والنقابية والنيابية 2018، التي حقّقت فيها قوى الاعتراض خروقات وانتصارات رسّخت الامل بإمكانية التغيير.
واليوم نقف امام استحقاق الانتخابات النيابية 2022، ونحن نعي ان السلطة الحقيقية هي خارج المجلس، بيد زعماء الطوائف وقوى الامر الواقع والميليشيات الطائفية التي ترهب وتهدد الرأي المعترض، كما هدّدت وتعرّضت للمتظاهرين غير مرة منذ 17 تشرين وقبله. فحتّى لو تم الفوز بكتلة وازنة في المجلس لن يكون التغيير ممكنا في ظلّ ميزان القوى الميّال للسلطة الطائفية، والتي باتت اكثر تحكما بالمواطن وحاجاته بعد الازمة الاقتصادية. فالمواجهة غير عادلة اصلا، ولتكون الانتخابات ديمقراطية بحق، يجب ان يتمتع الانسان بادنى حقوقه ليستطيع اتخاذ قرارا حرا.
الّا انّه عملا بمبدأ التفكير بالآن او اللحظة الحالية والعمل على شيء منتج يراكم على ما تحقق سابقا، لا بد من المواجهة بكل السبل المتاحة ومنها الانتخابات، بشرط تحديد الهدف من المشاركة بوضوح وتوقعات النتائج وتأثيرها بمسار التغيير بموضوعية.
فالانتخابات بالنسبة لقوى التغيير الحقيقية محطة من محطات النضال الطويل ووسيلة، لا لمحاولة الخرق والانتصار ولو معنويا على السلطة فحسب، بل الاهم لايصال المشاريع التغييرية والافكار السياسية الى اكبر عدد ممكن من اللبنانيين، وحثهم على الانخراط في مجموعات وقوى التغيير التي تحمل مشاريع واضحة لحل الازمة الاقتصادية وازمة النظام التي سببتها، لأنه من غير الممكن تحقيق اي تغيير جدي قبل جمع غالبية من اللبنانيين حول مشروع وطني علماني يؤسس لعقد اجتماعي جديد بين المواطنين والدولة (دون المرور بالطوائف)، ويتبنّى بناء دولة علمانية، على اسس العدالة الاجتماعية، الحرية والمساواة.
فالدساتير والقوانين هي تعبير عن العقد الاجتماعي الذي يرتضيه المواطنون، ولا تُحصّن الا بوعي الناس، على ان تحقّق مصالحهم، فيؤمنون بها ويدافعون عنها بشتّى الوسائل، ومن دون ذلك تبقى حبرا على ورق، يسهل تحويرها.