التغيير بصبغة أبويّة - غنى العنداري
30 نيسان 2021
الأبويّة هي الشرّ الأعظم وأصل كلّ الشرور!
أبدأ حديثي من هذه القناعة، وأنطلق منها لأبني رأيي بالنظام السياسيّ القائم وكذلك التنظيمات المعارضة لهذا النظام.
كثرت التحليلات الّتي طالت منظومة الحكم، وتطرّق بعضها إلى النظام الأبويّ كأحد أوجه هذه المنظومة. ونحن، كنسويّات، كثيرًا ما نقوم بالربط بين النظام الحاكم وحمايته للنظام الأبويّ ومحاربة النساء، خصوصًا عبر إقراره لسياسات تُمأسِس دونيّة النساء من قوانين الأحوال الشخصيّة وقانون الجنسيّة ونظام الكفالة وتجريم النساء المستغَلّات جنسيًّا والمصائد القانونيّة كافّةً المتربّصة بالنساء. لكنّني لا أكتفي بهذا القدر من التحليل والمقاربة، بل أذهب إلى أبعد من ذلك للقول؛ إنّ النظام الحاليّ هو في تركيبته نظام أبويّ، بل أكثر من ذلك، هو من مخلّفات النظام الأبويّ.
أعني هذا بكل جدّيّة. النظام الاقتصاديّ الجشع الّذي يمركز الثروة في يد قلّة من الرجال ويسلب باقي الناس أيّ قدرة على الوصول للموارد وأيّ ملكيّة للموارد، هو أبويّ بحت. هذا الهوس بالسلطة والمال وهذا الاستفحال في السطوة على الموارد لا نراهما في المجتمعات الأموميّة، حيث هناك أمثلة عديدة عن كيف تكون النساء مسؤولات عن إدارة الموارد وتوزيعها بالتساوي على القبيلة.
كذلك، حصر القرار بيد قلّة من الرجال من أرباب الطوائف وأمراء الحرب وعدم اكتراثهم لأيّ إرادة شعبيّة (كما هو جليّ في الآونة الأخيرة) هو ركيزة النظام الأبويّ، لأنّ لا صوت يعلو فوق ضجيج الآباء وفي حال علا "شُيطن" وأُسكت. هذا أيضًا لا نراه في المجتمعات الأموميّة؛ بحسب مقابلة للباحثة والفيلسوفة الألمانيّة "هايدي جويتنر أبيندروث" الّتي أجرت دراسات عن هذه المجتمعات، روت فيها كيف تمّ استفتاء كلّ أفراد قبيلة الموسو الصينيّة عن رأيهم بشأن إنشاء مطار قريب منهم. وبنتيجة هذا الاستفتاء، كانوا قادرين على وقف هذا المشروع الّذي كان سيتسبّب لهم بضرر. فالنظام الأبويّ وتجلّيه في المنظومة الحاكمة لا يرى الأفراد ولا يعترف بهم، لا سيّما إن كانوا نساءً.
بالإضافة إلى ذلك، النظام الطائفيّ المفروض علينا ومفهوم الزعيم ليسا إلّا امتدادًا لمفهوم الأب الّذي يملي علينا أفكارنا وأقوالنا ويخبرنا من نحالف ومن نعادي. هو يدرك مصالحنا أكثر منّا ولا نحصل على شيء أو نفعل شيء إلّا بإذن منه. لا دور لنا في هذا النظام إلّا التصفيق والتهليل للأب العالِم النابغة. وإن تجرّأ أحد المجذّفين أو إحدى المجذّفات على مواجهة أو مساءلة الأب، قُوبلوا بالتخوين والتهديد والتغريض. تتبادر إلى ذهني فورًا الحملات والتهديدات الّتي شنّها الأبناء الصالحون على الصحافيّة "مريم سيف الدين" و"جنيد زين الدين" وغيرهما، عندما بلغت بهم الوقاحة حدّ الانتقاد. وإن تجرّأنا أكثر على مخالفة الوصايا والتعليمات، خرج علينا الآباء بسباباتهم المرفوعة وأصواتهم المقعقعة وخطاباتهم الطويلة المملّة، ويا لسماجة وغلاظة هيئتهم وكلامهم صراحةً! وإذا اضطرّهم الأمر، هدّدونا بالتأديب أو أقدموا عليه فعلًا كما قتلوا لقمان سليم.
ولتفادي الإطالة، يمكنني الاختصار بعبارة "بي الكل" الّتي أطلّ علينا بها العهد الحاليّ. وللحقيقة، صارحونا بدايةً أنّ هذا هو نظام الأب وحكمه. ما الّذي كنّا نتوقّعه حقًّا؟
بالانتقال إلى التنظيمات المعارضة والحركات التغييريّة، ما أعتمده في فهمي للنظام الأبويّ ومقاومته، أطبّقه على النظام السياسيّ الحاكم. لا حديث ولا تحاور مع النظام الأبويّ، أدوات النظام الأبويّ وأساليبه لا يمكن أن تنتج سواه، أيّ تغيير حقيقي وجذريّ لا يمكن إلّا أن يقوم بهدم النظام وعلى ركامه. كلّ هذا برأيي ينطبق على النظام السياسيّ.
فالتنظيمات المعارضة الّتي تتشكّل على هيئة النظام الحاليّ بنفس الهرميّة والسلطويّة، بعيدًا من أيّ ديمقراطيّة وتشاركيّة حقيقيّة، لا تنتج إلّا ما أنتجه النظام. قرارات صادرة عن أقلّيّة لا تمثّل مصلحة الأغلبيّة ويتمّ إقصاء كلّ من لا يطبطب لهذه الأقلّيّة. لا أمل بالهرميّات والنخبويّات المغترّة الّتي لا تسمع سوى صدى صوتها ولا تُولي قيمةً للأفراد وتسقط خطابها وقراراتها على الناس من منطلق فوقيّ بحت، حيث لا معرفة ولا آراء تُنتج خارج الدائرة الضيّقة الّتي تمتلك السلطة.
الآباء الجدد والأنا الهشّة: أيّ حركة هرميّة محتّم لها أن تنتج مشروع زعيم. وأيّ حركة سياسيّة تتمحور حول شخص وحيد أو قلّة صاحبة الحكمة المطلقة - وإن كانت تدّعي التغيير والمعارضة - ليست سوى إعادة إنتاج لنماذج الزعامات القائمة. إن كانت هذه التنظيمات غير قادرة على تلّقي أيّ نقد وتتعامل معه على أنّه محظور، لن يطول بها الأمر لتدخل في خطاب الخطوط الحمر الّذي كرهناه واستثقلناه واعتقدنا أنّنا تخطّيناه.
أخيرًا وليس آخرًا، أيّ تنظيم لا وجود ولا دور حقيقيّ متساوٍ للنساء فيه، ليس سوى نادٍ آخر للرجال كحال مجلس النوّاب ومجلس الوزراء. لا نريد ناديًا آخر للرجال ولا نرغب بأن نكون شجرة زينة في نواديكم، تخرجونها في المناسبات لتخبرونا أنّكم تقدّميّون. ولا نرغب بسماع الخطاب المعلوك نفسه بأنّكم تشجّعون النساء لكنّهنّ لا يأخذن مبادرةً أو أنّ أمينة السرّ في تنظيمكم امرأةً وهذا لا بدّ أن يعني أنّكم تغييريّون. بالنسبة إلى التنظيمات الّتي تعتقد أنّها فعلًا جدّيّةً بتمثيل النساء، يكون أولى بالرفاق ضمنها أن يتوقّفوا عن مقاطعة النساء واستصغارهنّ وتجاهلهنّ. قليلٌ من الصمت والاستماع مفيدٌ للصحّة، وسيكون مفيدًا لتقدّميّتكم أيضًا ألّا تملوا علينا خطابنا وأولويّاتنا وتقيسوا نبرة صوتنا كذلك.
للتذكير، النظام الأبويّ هو الشرّ الأعظم، وأيّ تغيير أو نظام يبنى على صورته لن ينتج سوى نفس الهرميّات الخبيثة الفاسدة.
غنى العنداري