يمكن تعريف العقد الاجتماعي بأنه العقد الذي يؤلّف مجموع القوانين والأعراف والعادات والتقاليد والمبادئ والقيم، المقبولة من الناس، التي تُنظّم علاقاتهم المتبادلة وتحكم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بينهم وبين السلطة.
يعكس هذا العقد فلسفة الدولة ويرسم نظامها السياسي ونظام الحكم فيها ويُظهّر إرادة المواطنين في العيش الهانئ ضمن بقعة جغرافية واحدة مع التقيّد بأحكام وقواعد تُسهّل حياتهم المشتركة.
يترتّب على ذلك أن العقد الاجتماعي لا يقتصر فقط على الأحكام المكتوبة، كتلك الواردة في الدساتير والقوانين والأنظمة الوضعية، ولا على الأعراف المُستقرة في بناء الدولة القانوني، بل أن نطاقه يتعدّى هذا الإطار ليطال ويشتمل على مفاهيمٍ وقيمٍ كالصالح العام والنظام العام والإرادة العامة والأخلاق وغيرها.
باختصار شديد، العقد الاجتماعي هو اتفاق ضمني يُحدّد ما هو مُتعارف على قبوله وما هو غير مرغوبٍ فيه من سلوكيات بين الأفراد وبينهم وبين السلطة، وما هو راسخٍ في وجدانهم الجمعي كوسيلة لتدبّر شؤونهم وتيسير علاقاتهم مع الآخر، شخصاً كان هذا الآخر أو مجموعة أشخاص أو دولة.
كان الفلاسفة اليونانيّون أول من تطرّق إلى أفكار شبيهة بنظرية العقد الاجتماعي، كفكرة التعاون بين الناس والسلطة، تعاون يُفضي الى التنازل عن حقوق وحريات معيّنة ومحصورة لصالح مُكوّن أعلى وأعظم شأناً يؤمّن مصالحاً تفوق المصالح الفردية الضيّقة، ولكنها مصالح تعود بالنفع على الأفراد وعلى المجتمع، ولو بأشكال مُختلفة.
كما تناول نظرية العقد الاجتماعي كل من توماس هوبز وجون لوك، لكن هذه النظرية لم تحظَ بالاهتمام اللازم إلا في "عصر التنوير" في بدايات القرن الثامن عشر، فسيطرت على حيّز واسع من النقاشات حين أصبحت أوروبا، وتحديداً فرنسا، مركزاً للنشاط الثقافي على يد مجموعة من المفكرين طبعت إنجازات نيوتن العلمية أثراً واضحاً في مناحي تفكيرهم؛ نذكر منهم على سبيل المثال، ديدرو وكانط ومونتسكيو وفولتير وديفيد هيوم وجان جاك روسو. وقد مهّد هذا الأخير لهذا العقد كما نعرفه اليوم في كتابه الذي حمل هذا الإسم.
بالنسبة إلى جان جاك روسو، العقد الاجتماعي هو عقد مُركّب، عقد بين الناس، أي بين بعضهم البعض، وآخر بينهم كشعب وبين السلطة. والشعب يُذعن من خلال هذا العقد للسلطة، لكن ما هي حدود هذا الإذعان؟
من البديهي هنا، وعلى خطورة هذا الأمر، إقرار حق الفرد بأن لا يكون ملزماً بالعقد الاجتماعي وبتطبيق أحكامه أو بالخضوع لها إلا بمقدار ما يقوم غيره بذلك، وبقدر ما تقوم السلطة بتنفيذ الموجبات المُقابلة المُلقاة على عاتقها كنتيجة لهذا العقد.
عندما نوافق كأفراد على العقد الاجتماعي، وبالتالي على موجب الالتزام بأحكامه، سواء كانت بصيغة قوانين مكتوبة أو غير مكتوبة، يكون ذلك مشروطاً بتطبيق الأحكام والقوانين من قبل الجميع، وعلى الجميع، وبعدالة. فمع سقوط العدالة يسقط الموجب.
لقد أثبتت الأزمات المُتتالية والمتوالدة في لبنان أن المجتمع اللبناني لم تُتَح له يوماً فرصة الاتفاق على وطنٍ مكتملٍ، ولم تتهيّأ لأفراده ظروف الاجتماع على عقد اجتماعي صحيح، بالمعنى الدقيق والعميق للعبارة، بحيث كان ما يُسيّر أمور هذا الشعب لا يعدو كونه عقد إذعان فرضته إما إرادة خارجية، أو إرادات محليّة متفرّقة جرى تكديسها بما لا يرقى إلى مستوى متطلّبات الإرادة العامة، وبحيث يمكن تصنيف ما جمع بين اللبنانيين، في أحسن أحواله، أنه مسودة تفاهم هشّة لم تُبنَ على وعي جمعي أو على إدراكٍ سليم بين مكونات المجتمع فسقطت عليها من فوق لتعصف بها التباينات عند كل مفترقٍ أو استحقاقٍ أو تحدٍ، داخليٍّ كان أم خارجيّ.
تاريخياً، كان لبنان ساحة تجاذبات وتنازع دول وممالك وامبراطوريات تريد فرض سيطرتها ونفوذها في المنطقة لتحقيق مصالحها على حساب مصالح أصحاب الأرض، ابتداءً من إمارة فخرالدين مروراً بحكم الشهابيين وبنظام القائممقاميتين وصولاً إلى متصرفية جبل لبنان. وقد اتسمت كلّ هذه المراحل بالفتن الطائفية العنيفة التي كانت تؤججها وتغذيها قوى عالمية تنشط في بيئة مؤاتية وخصبة، فتضرب عند الحاجة على الوتر العصبوي الطائفي الذي ميّز المجموعات التي كانت تسكن جبل لبنان، وتستثمر في ميلها، القسري في بعض الأحيان، للاستقواء بالخارج في مواجهة الآخر المُغاير "حمايةً" لوجودها وثقافتها.
مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبرطورية العثمانية، وضعت اتفاقية سايكس بيكو لبنان تحت الانتداب الفرنسي ليُعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في العام 1920 بضمّ بعض النواحي الى جبل لبنان، وليُقرّ مجلس الممثلين أول دستور في العام 1926 معلناً ولادة الجمهورية اللبنانية.
وقد رفض أغلبية المسلمين في دولة لبنان الكبير الكيان اللبناني بدايةً، لأسباب عدة ليس المجال هنا لعرضها بإسهاب، إنما يمكن اختصار هذه الأسباب بأنها تراوحت بين إرادة البقاء تحت عباءة الدولة العربية الموعودة بقيادة الأمير فيصل، وبين رفض الاحتلال الأجنبي المُلطّف بتعبير الانتداب، وبين الرغبة في الحفاظ على الأكثرية العددية، حيث كان اندماج المُسلمين في الدولة حديثة العهد سيضعهم تحت حكم الأكثرية المسيحية. وهذا ما فرض وأدّى في سنوات لاحقة إلى وضع وثيقة الوفاق الوطني وإلى المطالبة بالاستقلال الذي تحقق في العام 1943.
بعد ثبوت فشل تجربة وثيقة الوفاق الوطني باندلاع حرب العام 1958، وما سبقها وتلاها من ممارسات شاذة في الحكم أدّت إلى اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 التي انتهت بدورها، وبوساطة خارجية بطبيعة الحال، الى إقرار اتفاق جديد هو اتفاق الطائف، وبعد فشل تجربة اتفاق الطائف أيضاً وغيره من التوافقات الظرفية التي تعمّدت مساراتها بالدم، وما ترافق مع ذلك من سلوكيات في السياسة والأمن والاقتصاد لم يهدف أصحابها يوماً إلى إنشاء دولة، سلوكياتٌ ما تمّت إلاّ لتخدم مصلحة فئة متسلّطة ترى في الوطن والدولة ومؤسّساتها حظيرةً خاصةً بها لتقاسم الخيرات والثروات والتحاصص على أساس المنفعة الضيقة والزبائنية، برزت الحاجة الى صياغة عقد اجتماعي جديد، أكثر انفتاحاً وأكثر مرونةً وعصريةً، تتوافر وتتأسّس له فرص النجاح ومقومات الاستقرار والتطوّر ليُلبّي حاجة المواطنين في تصوّر فكرةِ وطنٍ لهم وبناء دولةٍ تضمن لهم الاطمئنان والازدهار.
إن الدور المعوّل عليه لهذا العقد الاجتماعي هو إعادة تكوين الوعي المجتمعي وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحدّ من تجاوز السلطة واحتمالات الاضطهاد مع تعهد جدّي بحماية المواطن وحريته وأمنه.
ولا يمكن أن نتصوّر وجود هذا العقد بين اللبنانيين إلا باستغنائهم، أو باستغناء الغالبية العظمى منهم، عن ملاذهم الطائفي الذي شكّل لهم فُقاعة آمنة، وفي ذات الوقت حاجزاً وهمياً - ولكنه عصيّ - بينهم وبين الآخر "المُغاير"، وبحيث قضى هذا الملاذ على كل إمكانية للتعايش السلمي بينهم وعلى كل إمكانية لقبول التباينات، واستلب أي ميل لديهم أو حتى مجرّد استجابة لتحقيق أي شكل من أشكال النظام كبناءٍ يرتفع من تُربتهم، من تحت إلى فوق.
فالأزمة المُزمنة في لبنان ليست، ولم تكن يوماً، أزمة تقنية، أو أزمة أشخاص أو طاقات بشرية، أو أزمة موارد وثروات، ولم تكن أزمة أخلاقية في بداياتها، أو على الأقل لم تكن هذه أسبابها المباشرة؛ إنما هي، في المقام الأول، أزمة بنيوية وأزمة نظام، هذا النظام الذي قام، في كل مراحله، على توافق فوقي سلطوي بين العائلات الإقطاعية وبينها وبين الطوائف المكوّنة للمجتمع اللبناني، توافقٌ على تقسيم الأدوار في السياسية وفي الاقتصاد وحتى في الأمن.
ترافقت هذه السياسات – التوافقات مع استقرار فكرة "الزعيم" الحامي والمخلّص في الأذهان، مع ما حمله هذا الموقع في لبنان من ملامح الطقوسية. فالزعيم يستمد سلطته "المقدّسة" من رئيس الطائفة التي ينتمي إليها، لتتحوّل هذه العلاقة الجدلية بطبيعتها، ومع الوقت، إلى علاقة مصالح متبادلة، عميقة ومتجذّرة، يضمن ويحمي فيها كل فريق جانب الفريق الآخر. فالزعيم يختصر التابعين في شخصه ويستأثر بالسلطة والجاه والمال، ليُعيد توزيع الثروة على هواه منصبّاً نفسه وسيطاً بين المواطن وبين الدولة المولجة وظيفياً بتأمين الخدمات؛ يمنح الامتيازات لبعض المحظيين أو المأجورين، ويُغدقهم بالهدايا لضمان أمنه واستقراره وازدهار أعماله. الزعيم هو المرجع الأعلى، الأول والأخير، في نطاق سيطرته المكانية والزمنية، يقبض على الأمور الدنيوية تاركاً الأمور الدينية للطائفة ورئيسها وكهنتها.
وإذا قمنا باستدعاء الأحداث في لبنان إلى بساط البحث لتفكيكها وفهمها، يتبين أن النزاع بين الطوائف ليس نزاعاً دينياً، بل هو نزاع سياسي بامتياز، نزاع حول امتيازات وضمانات ومصالح أفراد وفئات.
المسافة الفاصلة هنا بين شؤون الدين وشؤون الحكم تصبح ضبابية، تحكمها ثقافة مؤسّسة تأسيساً متيناً جوهرها شأن حيوي بالنسبة إلى النافذين والمستفيدين يُناقض فقه المواطنة والانتماء إلى دولة.
إذاً، العقد الاجتماعي اصبح أمراً مُلحّاً، لازماً ومفصلياً، تُفضي إلى تكوّنه ضرورات الحفاظ على كرامتنا الإنسانية بعدما استباحتها أيادي السلطة الغليظة، الدنيوية منها والدينية. هو فعل قانوني ينتقل معه مركز السلطة من تحالف الزعيم مع رئيس الطائفة الى الناس، مُعلناً انطلاق عصر "التنوير اللبناني" من النقطة التي انتهى اليها عصر الظلمات بقيادة التحالف المذكور. هو بداية جديدة ليوم جديد.
والعقد الاجتماعي الذي نتصورّه يقوم على مبادئ خالصة وعلى حقوق أصبح لها مرتكزاتها العلمية الثابتة، كالحرية، والعدالة، وثقافة تقبل الآخر، والرقابة، والمُساءلة، والمُحاسبة، والانتاجية، والشفافية، والنزاهة، وتقديم الخدمات الأساسية.
مبادئ وحقوق إذا كُتبت لها الحياة تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن؛ فلعّل أكثر ما يُعيق عملية التغيير اليوم هو عدم ثقة اللبناني بدولته.
العدالة ليتمتّع المواطن بالمساواة أمام القانون وبالفرص االمتكافئة وبالحقوق الخاصة والعامة دون تمييز، وبحيث تهدف السياسات الاجتماعية إلى تحقيق التوازن بين حاجات الفئات المختلفة في المجتمع.
ضمان الخدمات ليتمتُع المواطن بما يجب أن توفّره له الحكومة من غذاء وتعليم ورعاية صحية وإسكان ونقل وعمل.
الانتاجية والكفاءة والنزاهة لتُسهم في النمو الاقتصادي المستدام وفي تحقيق الاستقرار الاجتماعي من خلال خلق فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة.
الحرية وثقافة تقبل الآخر لنبني سوياً مجتمعاً رائداً سليماً خالٍ من العنصرية والتمييز والأحكام المُسبقة.
الرقابة والمُساءلة والمُحاسبة لضمان عدم تكرار الأخطاء والجرائم بحق الشعب اللبناني!
ويجب أيضاً أن يشتمل هذا العقد على آليات واضحة وفعّالة لتكريس هذه المبادئ والحقوق وضمان ممارستها وتطبيقها، وعلى ما يُحقّق فصل الدين عن الدولة، وعلى مُسبّبات انطلاق العملية الديمقراطية الصحيحة لمشاركة الشعب في اتخاذ القرارات السياسية الهامة.
إلا إن العقد الاجتماعي الذي تنتظم فيه قواعد وسلوكيات شعب معيّن لا يمكن له أن يكون جامداً، غير آبهٍ بما يدور حوله من تطورات سريعة على مختلف الصعد، بل يجب أن يتكيف مع المتغيّرات الاجتماعية والثقافية والعلمية في المجتمعين المحلي والدولي، كما أن مضمونه واجب المراجعة والتعديل لمعالجة مكامن الخلل كلما دعت الحاجة، فتتلخّص المسألة النضالية في طرح الأفكار الجديدة والحلول المُبتكرة ومحاولة إدخالها في متن هذا العقد إذا كانت تُلبّي مصلحة عامة أو كانت متوافقة مع متطلبات التطوّر والاستدامة.
وقد آن الأوان للشعب اللبناني أن يُقرّر مصيره، ويُنمّق ملامح مستقبله، ويحلم بوطن يحضنه ويحميه وبدولة تؤمن له حاجاته ورفاهيته.
فما أكثرها مُبرّرات المضيّ في عملية تجديد العقد الاجتماعي، وما أكثرها مُبرّرات الدعوة إلى إجراء التعديلات الدستورية اللازمة لقيام دولة موحّدة علمانية عادلة، لا مركزية، يسودها نظام برلماني ديمقراطي تحكم فيه الأكثرية وتعارض فيه الأقلية، أكثرية وأقلية تنبثقان عن انتخابات حرّة ونزيهة وليس عن توافقات تحجب إرادة الناس وتستبدلها بإرادة حفنة منهم متحكّمة ومُستغلّة ومُتسلّطة.