تخطى إلى المحتوى

قطّ شرودنغر (Schrodinger’s cat)

mazen nassereddine

في الخامس من أيار من العام 1789، عندما جلس الملك لويس السادس عشر على كُرسيه في قصر فرساي، بعد دعوته مجلس الطبقات للانعقاد، لم يكن يعلم أن مصيره قد تحدّد، وأن نهايته قد أصبحت وشيكة، وأن بينه وبين الثورة الفرنسية مسافة طولِ مِقصلة.

كما لم يكن يعلم، ولا كان يعلم أي من الحاضرين أن تموضعهم الزمكاني حول الملك سيكون له الأثر البليغ على سياسات العالم حتى يومنا هذا. ولا كان يُخيّل لأحد أن تسميتي "يمين" و"يسار" سترافقان شعوباً وتُحدّدان مصائر وسياسات امتدت الى قرون؛ فأساس تسمية "يسار" و"يمين" يعود إلى ترتيب المقاعد بحيث كان الملكيون يجلسون صدفةً على يمين الملك، بينما كان الذين يناصرون قيام الجمهورية يجلسون على يساره.

بعد هذا الانقسام العفوي في مجلس الطبقات، انتقل مصطلحا "اليمين" و"اليسار" إلى الأنظمة السياسية وأصبحا جزءاً لا يتجزأ من تاريخ السياسة الغربية ومن معجم مفرداتها. فأصبح "اليسار" يرتبط بقيم مثل العدالة الاجتماعية، والتغيير الثوري، بينما يرتبط "اليمين" بالحفاظ على التقاليد، وبالاقتصاد الحرّ.

ورغم تطور المفاهيم وتغيّر الكثير من الظروف السياسية والاجتماعية على مر العصور، فإن ثنائية "اليسار" و"اليمين" استمرت كأداة صلبة لفهم وتصنيف الأيديولوجيات وللإشارة إلى المواقف المختلفة تجاه القضايا المطروحة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحريات وغيرها.

على وقع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من مرحلة التحولات الكبرى في الأنظمة السياسية والاجتماعية في مختلف أنحاء العالم، ظهر تيار "اليسار الجديد"، وهو التيار الفكري والسياسي الذي نشأ كردّة فعل على السياسات التي دافع عنها اليسار التقليدي في السابق، وعلى القيم السائدة في الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية على حد سواء.
كان هذا التيار يُعبّر عن مراجعة شاملة للسياسات الاجتماعية والاقتصادية؛ ومع ظهوره، أصبح هناك تحدٍ مباشر للأنماط التقليدية في التفكير السياسي، الذي كان يُحرَّك غالباً من قبل الأحزاب السياسية التقليدية كالأحزاب الشيوعية والاشتراكية.

وفي حين كان اليسار الجديد يسعى إلى تقليص سلطة الدولة على الأفراد، كان اليمين يرى في الدولة أداة رئيسية للحفاظ على النظام القائم، ويروج لفكرة مركزية السلطة. ثم أصبحت التوترات بين اليسار واليمين أكثر تعقيدًا مع تأثيرات العولمة على مختلف جوانب الحياة؛ اليمين يرى في العولمة تهديداً للهوية الوطنية، بينما يرى اليسار فيها فرصةً لتحقيق "المساواة العالمية" من خلال تحسين فرص التعليم، والعمل، والصحة والغذاء والسكن.

استمر تطور الفلسفة والأنظمة السياسية في العصر الحديث وعصر ما بعد الحداثة، وتداخلت الأيديولوجيات والممارسات بشكل قد يصعب معه تحديد سياسات "اليسار" أو "اليمين" بدقة كما كان الحال في الماضي، فالعديد من الأحزاب والأفراد باتوا يجمعون بين أفكار يسارية ويمينية في سياساتهم، وتزايدت الحكومات التي تتبنى سياسات وسطية أو خليط من السياسات الاقتصادية الليبرالية والاشتراكية.
وهذا ما يؤكّد أن التسميات التقليدية لليسار واليمين قد أصبحت أقلّ دقةً في وصف التوجهات السياسية الحديثة، وما يعكس بالتالي التحول نحو أيديولوجيات أكثر مرونةً وأكثر ارتباطاً بالواقع. ومن نافل القول أننا بتنا بحاجة إلى أدوات وصفية جديدة أكثر توافقاً وانسجاماً مع التحديات السياسية والفكرية للعصر الحالي.

إن تحول الفكر السياسي والاجتماعي، بما في ذلك تغيّر المفاهيم حول اليسار واليمين، يشير إلى تحولات أوسع في البُنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ستتأثر أيضاً وحكماً بالتطورات العلمية الحديثة، ما سيُعيد تشكيل الاقتصادات التقليدية بشكل كبير. هنا، قد تُطرح اسئلة مهمة حول مستقبل العمل، والعدالة الاجتماعية، والحقوق بشكل عام؛ وهذه الأسئلة قد تثير نقاشاً أصبح مُلحّاً حول النظام الاقتصادي القائم ومدى فعّاليته، مع ما سيتبع ذلك من هزّات اجتماعية لا نعرف كيف وعلى ماذا ستستقر.

فبعد الثورة الصناعية وما لحقها من تخلخل في البنى الاقتصادية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، أتت الثورة الرقمية لتشهد البشرية معها "إعجازات" أصبحت، بفعل الملاءمة والعادة، شأناً يومياً وحاجة لا يُستسهل التنازل عنها أو حتى إهمالها.

استطاع الإنسان احتواء هاتين الثورتين والتكيف مع نتائجهما إلى حدّ كبير؛ أما علوم الذكاء الاصطناعي وفيزياء الكم التي يتسارع تطورها بشكل مُلفت، فستصعب مجاراتها في القادم من الأيام ما لم نستنبط حلولاً خارجة عن تصوراتنا "البدائية" وعن أدوات فهمنا التقليدية. نحن نعيش اليوم بدايات ثورة ذكية وكمومية تتعاظم ككرة الثلج، ومن المُحتمل (حتى لا نقول من المُرجّح)، أنها ستُطيح بالبشر وبحضاراتهم، على الأقل كما نعرفهم اليوم.

مع هذا التطور الخطير، قد تُسارع الحكومات والمؤسّسات الى تقديم خدمات عامة ذكية وحلول "كمومية"، التي بدورها ستؤدي إلى تحولات عميقة وجوهرية في أنظمة الحكم وفي الأنظمة السياسية. كما سيؤثر ذلك حتماً على الأفكار الفلسفية حول الواقع والوجود والوعي.

ففيزياء الكم تفتح آفاقاً جديدة لفهمنا للواقع، بما في ذلك فكرة أن الواقع ليس ثابتاً، بل يعتمد على التراكب الكمومي والقياس والملاحظة. وهذا ليس بالأمر اليسير. فإذا كان الواقع ليس ثابتاً أو محدَّداً، فماذا يمنع أن تكون فكرة كالعدالة الاجتماعية ليست ثابتة أو مُحدّدة؟ وهذا ما يُحتّم على النظام الاجتماعي برمّته أن يكون مرناً وقادراً على التكيّف مع التراكبات المتعدّدة التي قد تنشأ عند القياس.

وللتوضيح أكثر لا بد من تفسير وجيز للتراكب الكمومي (Quantum Superposition)، وهذا على قدر فهمنا المتواضع للمادة حيث، بالعادة، يجب أن تُترك هذه الأمور للمختصين فقط.

لا بد من التأكيد أولاً أن التراكب الكمومي ليس مجرد فكرة فلسفية، بل هو ظاهرة، مؤكدة ومُثبتة تجريبياً، تُعيد تعريف الواقع، لا بل تُعيد تعريف الوجود نفسه.

ففي الفيزياء التقليدية، إما أن يكون الجسيّم موجة أو مادة، وإما أن يكون الإلكترون هنا أو هناك. أما في ميكانيكا الكم، فإن الجسيمات – كالفوتونات والإلكترونات – لا تكون في حالة واحدة مُحدّدة، بل في "تراكب" من حالات متعددة في آنٍ واحد. كأن "الإلكترون" لا يختار موقعاً واحداً، بل يكون "هنا وهناك" في آن واحد، وكأن "الفوتون" لا يختار حالة واحدة بين المادة والموجة بل هو في الحالتين معاً، إلى أن يأتي القياس فيُسارعان الى اتخاذ موقف؛ فمع القياس يختار الجسيّم أن يظهر بمظهر المادة، بمعنى أن كل ما هو خارج عن نطاق أدوات قياسنا، كحواسنا مثلاً، هو مجرد موجة، وأن المادة ليست "موجودة" بذاتها وبالاستقلال عن إدراكنا الحسّي لها.

هذه الحالة المُحيّرة تُعرف بالتراكب الكمومي، والتجربة الأشهر لتوضيح هذا المفهوم هي تجربة "قط شرودنغر"، حيث يكون القط في صندوق مُغلق حياً وميتاً في الوقت ذاته، إلى أن يُفتح الصندوق ويُحسم مصيره.

والتراكب الكمومي لا يعني أن المعلومة في حالة "مجهولة"، أو في احتمال من حالتين أو عدة حالات، بل أنها في كل الحالات المُمكنة في الوقت ذاته، حتى يتم القياس.

فعلم الاحتمالات (Probability) يُستخدم في الأنظمة الكلاسيكية عندما نجهل المعلومة الكاملة. الحالة الحقيقية موجودة لكننا لا نعرفها، لذا نستخدم الاحتمال لوصف "جهلنا" لها.

أما التراكب فهو وصف حقيقي للحالة، وليس ناتجاً عن جهلنا لها، وهذا ما يجعل ميكانيكا الكم غير حدسيّة ومختلفة عن منطق التوقعات والاحتمالات.

مع تبدّل طريقة فهمنا لمحيطنا، وللقواعد التي تحكم حركة الجزيئيّات، ولذواتنا، وللزمان والمكان، سنحتضن فكرة أن الأشياء ليست مجرد نتيجة نهائية ثابتة، ولكنها مجموعة من التراكبات الكمومية؛ وهذه ثورة غير مسبوقة في التفكير والتصور البشري حول كيفية إعادة بناء الاقتصادات والسياسات، وبالمجمل، حول كيفية إعادة بناء العلاقات بين البشر وبينهم وبين الحكومات.

لم يعد يكفي أبداً الاتكاء على أفكار الاقتصاد التقليدي ولا حتى الحديث، والبحث في خيارات اقتصادية جديدة تعترف بالتفاعل المُتغيّر بين القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أصبح واجباً حتى تتشكل سياسات جديدة تستفيد من الأنظمة المُعقّدة والمرنة التي تعتمد على التراكب الكمومي بدلاً من التوجّهات الثابتة.
وهذا قد يتطلب تحديثاً للأنظمة القانونية وللأطر الاجتماعية والعلمية والفلسفية بحيث تكون جدّ مُبتكرة، والتي من الصعب تصوّر أشكالها وأنماطها ووقعها على البشرية إلا بالمُتابعة الحثيثة.

وأنه في ظلّ التطور المُرافق والسريع في "حياة" نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، يواجه المجتمع العلمي سؤالاً حرجاً: ما هو تأثير هذا التطور المنقطع النظير على البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلى الفلسفة والوعي؟

النماذج الكلاسيكية في علم الاقتصاد تفترض سلوكاً عقلانياً محدداً. أما في ضوء ميكانيكا الكم، فيمكن تخيّل نماذج حيث يكون اتخاذ القرار غير حتمي، بل يعتمد على تراكب بدائل حتى لحظة الحسم. وظهور ما يسمى بالاقتصاد الكمومي سيتم عبر إدخالٌ واستيعاب أفكار مثل التراكب والتشابك الكمّي لفهم الأسواق والسلوكيات غير التقليدية.

كما أنه في علم الاجتماع مثلاً، لن تتصرف المجتمعات دائماً بطريقة يمكن التنبؤ بها رياضياً، بل يمكن أن يُنظر إلى السلوك الاجتماعي كتراكب كمومي، تُحدّد نتائجه وفق السياق والملاحظة والتفاعل مما قد يؤدي إلى إعادة التفكير في مفاهيم مثل الهوية، والانتماء، والرأي العام كمفاهيم "غير حاسمة" حتى تُستفزّ أو تُقاس.

وفي السياسة أيضاً، يشير التراكب الكمومي إلى تعدّدية المواقف السياسية في وقت واحد، وأن "الحقيقة السياسية" تتشكّل عند لحظة الاختيار أو التصويت أو الأزمة.

فهل من يظن بعد أن التسميات التقليدية مثل "اليسار" و"اليمين" ما زالت مُجدية؟ أم أنها أصبحت تسميات بائدة وغير قادرة على وصف الواقع المعاصر بشكل دقيق؟

في الخلاصة، يُعيد التراكب الكمومي تعريف "الحقيقة" بحد ذاتها، ويوسّع أفق الفهم في العلوم التطبيقية والإنسانية، ويدفع بالفلسفة إلى سؤال وجودي: هل نحن نرصد الواقع كما هو، أم أن كل منّا يصنع واقعه الخاص من خلال وعيه؟ وفي الحالتين، ما هي الأدوات التي ستمكّننا من الاستمرار والتطور كجنس؟ وكيف سيكون عليه عالمنا، وفكرنا، ومجتمعنا، واقتصادنا، وسلوكنا، بعد إسقاط التراكبات الكمومية على كاهل إدراكنا؟

بقلم مازن نصرالدين