تخطى إلى المحتوى
change 2022

رؤية لِحَقّي 22

منظومة مجرمة.

نموذج اقتصادي ومالي قائم على سرقة عمل وتعب وأحلام وآمال ومستقبل وأموال الناس ومدّخراتهم\ن وودائعهم\ن، بل حتى أموال وعمل وتعب وثروات الأجيال القادمة.

نظام قانوني وجهاز قضائي يعمل على تغطية المخالفات والجرائم المرتكبة بحق الناس وتبريرها، ويسعى إلى تكريس أنظمة وقوانين قمعية أبوية.

تركيبة سياسية وإدارية مركزية طائفية تجهد لتكريس وتعميق الانقسام العامودي بين أبناء وبنات البلد، لتأبيد العلاقة النفعية والتبعية بين الناس ومتزعمي الطوائف.

مؤسسات وأجهزة عسكرية وأمنية منحازة لحماية المنظومة وأركانها ومكوِّناتها، ومتقاعسة عن واجبها بحماية البلد وحدوده وناسه وحقوقهم\ن ومصالهم\ن

منظومة كرست دولة مختلّة ومنحازة لمصالح شريحة قليلة للغاية – للـ 1% - وسخّرت كل الإمكانات لتأبيد هيمنتها ومصلحتها.

منظومة شوّهت أبسط مفاهيم الديمقراطية عبر شبكة من العلاقات الزبائنية النفعية، وضربت الوكالة الشعبية عبر اعتماد قوانين إنتخابية هجينة ومشوَّهة.

منظومة مسؤولة كلياً وحصرياً عن الانهيار الذي يعيشه البلد، عبر ضرب أي مقومات الصمود الاقتصادي والاجتماعي لمواجهة أي ظروف قاهرة مستجدة.

منظومة تخشى الناس، تخشى المحاسبة والمساءلة، وتخشى اللجوء لاستفتاء الناس عن رؤيتهم\ن وطموحهم\ن وأحلامهم\ن لمستقبلهم\ن ومستقبل البلد.

لم يمر لبنان خلال قرنه الأول بحالة شبيهة بما هو عليه اليوم. فقد نجح سابقاً وتكراراً من تجاوز عنق الزجاجة، إذ لم تكن يوماً أزماته متعددة الأوجه والأبعاد والاتجاهات كما هي اليوم.

خلال ال43 وال52 وال58 وال75-90 وال2005-2008 كانت أزماته سياسية تتظهّر صراعاتٍ مسلحة تهدف إلى إعادة توزيع الأوزان لكن ضمن هيكل المنظومة. فهي لم تمس بجوهر صورة إعلان قصر الصنوبر 1920، لم تخرج عن الثنائيات الطوائفية، ولم تعرض النظام الاقتصادي القائم للخطر - ذلك النظام القائم على الليبرالية والريع والاحتكارات و"الرشوة" الاجتماعية بدل الرعاية الاجتماعية - ولم تمس بمواقع المؤسسات الدينية في الحياة الخاصة والعامة، وعمدت دائماً إلى تعزيز النظام المركزي-الطائفي-المنحاز لمن هم في أعلى هرم السلطة والثروة. ونتج عن عمليات توزيع الأوزان هذه، سلسلة لا تنتهي من الأعراف السياسية - وأحياناً الدستورية - التي قيّدت الحياة العامة وقيّدت الدستور والقوانين والمجتمع ككل بمعايير ومصطلحات باتت أدوات ابتزاز وتعطيل، مثل الميثاقية والديمقراطية التوافقية والتعايش السلمي، وغيرها من تعابير مديح الذات لتعزيز مشاعر التفوق (لبنان الرسالة، جسر الشرق والغرب، ملتقى الحضارات، الخ..).

لقد بُنيت وتطوّرت المنظومة على قاعدة الدولة المركزية، التي ركزت السلطة والقرار والمصالح والتنمية والنشاط الاقتصادي جغرافياً ضمن بيروت وضواحيها وبعض المدن، وقطاعياً ضمن قطاعات الخدمات والريع والمصارف والعقارات، واجتماعياً ضمن شريحة صغيرة نسبياً من الطبقة الرأسمالية. ما خلق تفاوتاً بين المناطق وبين القطاعات، وما أدى إلى نزوح من المناطق الطرفية باتجاه بيروت وضواحيها، ونزوح القوّة العاملة من المهن والقطاعات الإنتاجية باتجاه الوظيفة الخدماتية والوظيفة العامة. هذا التفاوت في توزيع الثروة فاقم من تعزيز الانقسام العمودي في البلد. كما فاقمت المركزية من الإهمال المتعمّد للمناطق الطرفية، ولا سيما المناطق والقرى الحدودية التي بقيت طوال عقود عرضة للاعتداءات العسكرية دون تجهيزات دفاعية عسكرية مناسبة ودون دعم اقتصادي واجتماعي يحمي أبناء هذه المناطق، مما أفسح المجال أمام مشاريع آخرها كان حزب الله رغم أنه لم يكن أولها.

يشكّل نموذج حزب الله - وما شابهه من مشاريع سياسية - تحدياً مباشراً لمفهوم الدولة الحديثة القائمة على عقد اجتماعي يضع أسس محددة للسلطة والقوة والعنف المنظّم، فيسحبها من يد الجماعات المكوُّنة للبلد ويضعها حصراً في يد "الدولة" ويضع لها قوانينها وقواعدها ونظمها. فنموذج حزب الله هو فعلياً عودة صريحة للدولة القروسطية حيث تتمسك كل جماعة بسلطتها وأدوات قوَّتها وسلاحها، فما لحزب الله اليوم يمكن أن يكون لغيره غداً كما كان لغيره سابقاً.

قد نكون اليوم نعيش في ظل حالة جديدة تهدد هيكل المنظومة بشكل جدي وحقيقي لأول مرة. فهيكل المنظومة يتكون من عدة أذرع متفرعة: منها السياسية ومؤسسات الحكم التي يحكمها تحالف بين إقطاع تقليدي وأمراء حروب ومصرفيين ومطورين عقاريين، والاقتصادية وشبكات العلاقات والمصالح المتداخلة والاحتكارات، والمالية وأسطورة النظام المصرفي اللبناني، وشبكة الأنظمة والقوانين بعضها تجاوز عمره القرن، وجهاز قضائي مدجّن، ومؤسسات عسكرية وأمنية تشكل العصا الغليظة بيد كل من سبق، ومنظومة القيم العلاقات الاجتماعية التي حوّلت الناس إلى جيش من المنتفعين ترتبط حياتهم واستمرارهم باستمرار المنظومة ذاتها. يوازي كل ذلك - ومن خارج مؤسسات المنظومة - شبكة من الميليشيات الطوائفية - أقواها وعرّابها حزب الله - التي تتبادل الأدوار فيما بينها، حيناً تتصارع بهدف شد العصب وتحقيق مكاسب، وأحياناً تتحالف لتوزيع المغانم، حيث برز هذا الأداء خلال أيام الثورة.

فنحن نشهد تحلّل هيكل المنظومة ككل، في كل مكوِّناتها وعلى كافة المستويات:

  • على مستوى مؤسسات الحكم، نشهد أزمة حكم وصراع على الفُتات وعجز أركان المنظومة لخلق اتفاق جديد لتجاوز المرحلة، مع كمّ كبير مما أصبح أعرافاً سياسية تعرقل إمكانية الحل أو الاتفاق السياسي حتى بين أطراف الخندق الواحد.
  • إقتصادياً، انهيار من الأسوأ عالميا خلال نصف قرن، يؤشر على فشل تام للنموذج الريعي الاستهلاكي، والذي وضع شرائح واسعة على حافة الجوع.
  • مالياً، إفلاس المصرف المركزي عقب عقود من مخالفة قوانين النقد بتمويله المصاريف الجارية للدولة، مقابل تمويله مراكمة الثروات بيد حملة سندات الدين وسندات الإيداع من المصرفيين وشركاؤهم، وسياسات بونزي أدت إلى إفلاس النظام المصرفي ككل بينما تفاقمت الثروات الخاصة بشكل استثنائي.
  • إجتماعياً، مع انهيار قيمة العملة وانهيار القدرة الشرائية ارتفعت معدلات الفقر وبات الأمن الغذائي والأمن الصحي مهددَين. ما فتح شهية بعض المتمولين الطامحين لبناء زعاماتهم إلى السعي لشراء الولاءات عبر تعزيز العلاقات الزبائنية والنفعية. وارتفعت معدلات الجريمة والانتحار بسبب الفقر.

مضافاً إلى ذلك فقد لعب حزب الله تحديداً دور الحامي والعرّاب و"الأخ الأكبر" لأركان المنظومة في محاولة منه لضبط حدود اللعبة الداخلية وصراعات النفوذ والمصالح والمكاسب. علماً أن حزب الله نفسه يشكل أحد أبرز وجود تحلّل هيكل المنظومة، إذ أن قوته ونفوذه وسلطته متأتّية من خارجها، وتشكّل عنصر ضغط على هيكلها الهش. قوته وسلطته متأتّية من السلاح ومن مؤسسات مالية وخدماتية تستفيد من مؤسسات المنظومة وتعمل خارجها في الوقت نفسه، ونجح بتكريس سطوته داخل المنظومة عبر فرض معادلات احتكار تمثيل طائفته وتبعه الآخرون من أركان المنظومة لتكريس أحادّيتهم في تمثيل طوائفهم لتعزيز حق النقض والتعطيل في الدولة تحت مسميات الميثاقية والديمقراطية التوافقية.

 

أزمة الحكم

بعد اتفاق الطائف، حكم النظام اللبناني نظام وصاية دولي، كلّف حافظ الأسد إدارة الملف اللبناني. وكان هذا التكليف بمثابة احتلال سياسي وعسكري وأمني ومخابراتي. نجحت الوصاية الجديدة باستبدال صراعات المحاور العالمية (أميركا - الاتحاد السوفياتي) التي سبقت الحرب الأهلية 1975 بنموذج خضوع سياسي تام لخيارات ومصالح واعتبارات حكم الأسد في سوريا. طبعاً شكّل رفيق الحريري آنذاك نقطة التقاء مصالح بين السعودية وسوريا مع امتدادات صداقات مع فرنسا وأميركا وحتى إيران وروسيا.

عام 2005، مع اغتيال الحريري - حيث تقع المسؤولية السياسية والأمنية أولاً على النظام السوري والفريق الموالي له - سُحِبَ التوكيل الدولي من بشار الأسد واختلّت المعادلات الداخلية لصالح قوى 14 آذار بسبب الدعم الشعبي لخياراتها وشعاراتها السياسية والدعم الخارجي من أكثر من جهة. فعمد حزب الله على مدى السنوات اللاحقة على تغيير الموازين الجديدة، من حرب تموز 2006، إلى غزوة أيار 2008 واتفاق الدوحة المرافق، إلى الانقلاب الحكومي 2011 والقمصان السود، وصولاً إلى التسوية الرئاسية، وتخلل هذه المدة أطول فترات الفراغ في رئاسة الجمهورية وفي حكومات تصريف الأعمال وأطول تمديد لولاية مجلس النواب.

خلال العقد الأخير نحج حزب الله وحلفاؤه بتكريس اجتهادات سياسية تحولت إلى أعراف شبه ثابتة تقيِّد وتحكم الحياة السياسية العامة، ما لبث أن التزم بها من كان على خصومة مع حزب الله والذين يسعون دائماً لإسترضائه. قبات لعناوين مثل الميثاقية والديمقراطية التوافقية والمناصفة تفسيرات جديدة وبات كل اتفاق سياسي بين أركان الحكم يتحول إلى عرف سياسي.
انتفاضة 17 تشرين 2019 كشفت عقم "الحكم"، سقطت حكومة الحريري، ثم سقطت عدة أسماء لتولي رئاسة الحكومة وصولاً إلى حسان دياب الذي أنهى تفجير 4 آب حكومته، لتسقط بعدها عدة تسميات من ضمنها الحريري، وصولاً إلى حكومة الميقاتي، التي بدورها ما لبثت أن عطلتها مكوِّناتها عدة أشهر بسبب التحقيق العدلي بتفجير 4 آب.

 

هذا السرد يكشف عدة جوانب من أزمة الحكم كمؤشر على تحلُّل هيكل المنظومة:

الجمود في القدرة السياسية لدى أركان الحكم في إدارة الأزمة الاقتصادية وفي القدرة السياسية على التعامل مع الشارع عقب ثورة 17 تشرين 2019.

لجوء مكونات المنظومة كافةًً (أركان حكم ومصارف وعسكر، الخ..) إلى حزب الله لطلب الحماية بوده الناس، وقد لعب دوره في حماية ورعاية المنظومة عبر خطابه السياسي التهديدي وفي الاعتداءات المتكررة على المتظاهرين وعلى خيم الاعتصام.
الفشل المتكرر لدى أركان الحكم للوصول إلى اتفاقات سياسية جديدة تتناسب مع التطورات، والتمسك بالاتفاقات السياسية القديمة بوصفها أعراف ثابتة.

عجز أركان الحكم من تقديم ضمانات واستدراج العروض الدولية المعهودة لتمويل المنظومة، فشل مبادرة ماكرون بعد تفجير 4 آب، وفشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فشل المحاولات المتكررة لاسترضاء السعودية - بوصفها مانح دائم للبنان ليتبعها دول الخليج، بما في ذلك استعداد أركان الحكم التخلي عن مساحات بحرية واسعة لصالح إسرائيل. كل هذا لم يقنع المجتمع الدولي بإنقاذ السلطة، ولم يمنع البنك الدولي من وصف الواقع بـ"الكساد المتعمد" والازمة بأنها من أكبر 10 أزمات اقتصادية في العالم خلال قرن ونصف.

ومن المؤشرات الأبرز هو الصراع حول التحقيق العدلي وشخص المحقق العدلي. فبينما نجح حزب الله مراراً وتكراراً من فرض إرادته السياسية عبر أيار 2008 والقمصان السود 2011 والتسوية الرئاسية 2016، وكذلك فرض رغبته على القضاء وخاصةً القضاء العسكري (فايز كرم نموذجاً)، إلا أنه عجز عن فرض إرادته بتطيير القاضي طارق بيطار، رغم تعطيله مجلس الوزراء ورغم قدرته على تحريك القضاة الموالين له لكف يد بيطار، وصولاً إلى التمرد العلني لمدير عام الأمن الداخلي على طلب بيطار توقيف وزير سابق ورفض وزراء الداخلية السماح بالتحقيق مع المدير العام للأمن العام، ألخ. هذه الأحداث لا تعكس مبدأ فصل السلطات، إنما تمرد وتفكك السلطات حسب أهواء ومصالح وارتباطات أحياناً، ما يشير إلى المزيد من حال التفكك في الدولة ومؤسساتها وفي هيكل المنظومة ككل.

لولا التفريغ المتعمد للحياة السياسية والنقابية على مدى عقود لما نجح أركان الحكم من الحفاظ على وجودهم وسلطتهم حتى الآن. هذا ما يطرح المهمة الأولى والتحدي الأكبر، بناء هيكل جديد يقوم على عقد اجتماعي يكون نقيضاً تاماً للهيكل الحالي المتداعي ولعقده الاجتماعي المركزي-الطائفي-المنحاز والمعادي للناس.

 

الانهيار الاقتصادي - المالي

خلال القرن الماضي تبدل الاقتصاد اللبناني بين ثلاثة نماذج.

الأول كان زراعي-حرفي-تجاري في بدايات القرن العشرين وقبل الاستعمار الفرنسي، حيث يتمتع لبنان بمساحات زراعية واسعة (أكثر من 60% من مساحته صالحة للزراعة) ووفرة المياه، وهذا ما دفع المنادين باستقلال لبنان آنذاك على الإصرار لضم البقاع الغني زراعياً ومائياً لضمان قدرة لبنان على تأمين حاجاته الغذائية الأساسية.

النموذج الثاني هو نتاج إصرار فرنسا على ربط لبنان مالياً واقتصادياً بها، فارتسمت معالم هذا النموذج خلال الأربعينيات والخمسينيات وما تلاها: تجارة، سياحة، خدمات، سرية مصرفية، ترانزيت، عقارات، فنادق، الخ… إنها حقبو "أسطرة" لبنان والتغني بـ"الفرادة اللبنانية" و"سويسرا الشرق" و"مستشفى العرب وجامعتهم وملهاهم الليلي" وما إلى ذلك من أساطير نسجت حول تلك الحقبة التي تغفل الحقيقة. حقيقة أن تلك الحقبة أمعنت في إهمال الأطراف وضرب القطاعات الإنتاجية وافراغها من قواها العاملة وفاقمت التفاوت الطبقي وتفاوت الدخل والثروة مناطقياً وقطاعياً، ما عزز الانقسام الطائفي. لتنفجر كافة تناقضات وصراعات هذا النموذج عام 1975.

بعد الحرب برز نموذج اقتصادي جديد، نموذج باتت فيه المصارف المنتِج الأكبر للثروة، ومصدر ثروتهم الأول هو الاستثمار في الدين العام. أي الدين لتمويل الدين لتمويل المصاريف التشغيلية لدولةٍ تخلت إرادياً، يوماً بعد يوم، عن كل مصادر الثروة الأخرى. فما لم تقضِ عليه الحرب وما سبقا، قضت عليه سياسات نيوليبرالية أرادت للبنان دوراً في المنطقة لم يعد بالإمكان القيام به. لم يعد العرب بحاجة إلى بوابة عبور إلى الغرب، وتغيّرت مسارات التجارة حين أصبحت الصين "مصنع العالم"، وتراجع مستوى الخدمات الأساسية لأي نشاط واستثمار اقتصادي مثل الاتصالات والنقل والكهرباء، بالإضافة إلى الفساد والبيروقراطية فانحسرت الحاجة للبنان خدماتياً، وحروب متكررة وتلوث بيئي قضت على القليل الباقي من سياحة، وسياسات حماية وتعزيز الاستيراد ضربت ما بقي من زراعة وصناعة.

هذا النموذج ركز النشاط الاقتصادي ضمن ثلاث شبكات: المصارف، التطوير العقاري والاستيراد الخاضع للاحتكار الصريح أو المقنّع.

على مدى العقود الثلاثة الاخيرة عمدت الحكومات إلى ضرب الإنتاج المحلي لصالح الاستيراد، ما انعكس بالخلل الهائل في الميزان التجاري الذي قاربت الواردات عشرة أضعاف الصادرات عشية 17 تشرين 2019. ما جعل البلد يعتمد على استيراد كافة حاجاته الغذائية والطبية والطاقة والصناعات الخفيفة والتقنية. (تجدر المقارنة بين انهيار قيمة الليرة وارتفاع سعر الصرف وتبخر الودائع الذي حصل في الثمانينيات والأزمة الحالية، حيث أن اقتراب شرائح واسعة من المجتمع اللبناني إلى حدود الجوع يشكل مفارقة بارزة، والسبب أن لبنان رغم سنين الحرب لم يتم تدمير انتاجه الداخلي ولا سيما الزراعي كما حصل بعد الحرب.)

تمويل الاستيراد جاء بكلفة اقتصادية باهظة ومضاعفة من جهة كان على عاتق المصرف المركزي تأمين الدولار بشكل مستمر فاستخدم ودائع الناس، ومن جهة أخرى عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تقديم "رشوة اجتماعية" على شكل "دعم أعمى"أفاد المستوردين أولاً وأفاد الطبقات الميسورة القادرة على الانفاق، عوضاً عن إفادة الطبقات والشرائح الأفقر والأكثر حاجة للدعم لتأمين حاجاتها الأساسية من غذاء وطبابة وسكن وتعليم.

الشبكة الثانية كانت التطوير العقاري، شهد موجتين رئيسيتين، الأولى مع وصول رفيق الحريري إلى الحكم ومشاريعه لإعادة الإعمار التي انحصرت في وسط بيروت بشكل كبير. والثانية إبان الأزمة العالمية 2008 حيث تدفقت أموال المغتربين باتجاه قطاع العقارات بالدرجة الاولى. كما كانت النسبة الأكبر من القروض المصرفية تتجه نحو هذا القطاع. هذا التمويل الفائض للتطوير العقاري جاء على حساب كافة القطاعات الاقتصادية الاخرى، ورفع من تضخم أسعار العقارات ومواد البناء والخدمات المرتبطة بها، كما ترافق مع سياسات حكومية منحازة أدت مجتمعةً إلى الإضرار بالمالكين القدامى والمستأجرين وصغار المطورين والمقاولين كل على حد سواء.

أما درة تاج النموذج الاقتصادي الحالي هو القطاع المصرفي، بشقيه: المصرف المركزي والمصارف التجارية. سلسلة الدمار: المصارف التجارية تسحب الأموال من السوق مانعةً استمرار وتطوّر الحركة الاقتصادية، تستقطب وتراكم الأموال وتقرضها للمصرف المركزي على شكل سندات إيداع أو للدولة على شكل سندات دين، يستخدم المصرف المركزي هذه الأموال لتمويل عمليات الاستيراد وتمويل المصاريف التشغيلية للدولة بما يخالف قانون النقد والتسليف الذي يحدد الحالات التي يجوز فيها للمركزي إقراض الدولة. بالمقابل يقوم المصرف المركزي بتقديم أرباح خيالية للمصارف: لأصحاب المصارف وكبار المودعين على شكل فوائد كانت نسبتها أضعاف المعدلات العالمية. في بلد عاجز عن إنتاج أي قيمة مضافة لإنتاج الثروة، كانت ودائع ومدخرات الناس بالليرة والدولار هي المصدر الوحيد لتمويل أعمال المصرف المركزي وأرباح المصارف وكبار المودعين. عوضاً عن خلق نشاط اقتصادي قادر على تأمين الدولار، لقد تمت إعادة تدوير دولارات المغتربين عدة مرات ورقياً حتى بلغت قيمة الودائع 120 مليار دولار/دولار من أصل مجموع 180 مليار دولار - ورقياً طبعاً. كانت هذه أكبر عملية بونزي تقوم بها سلطة سياسية.

سنين من العجز في الميزان التجاري، مع اقتصاد لم يكن يستقطب سوى ثلث الى نصف حاجته السنوية من الدولار، فكان النظام المالي يستهلك ما يملكه الناس من مدخرات وودائع.

وحين لم تكتفِ المصارف بـ85 مليار أرباح من خدمة الدين، قدم لها المصرف المركزي 6 مليار دولار اضافية بإسم "هندسات مالية"، مع دين عام بلغ 85 مليار دولار عشية 17 تشرين 2019.

إن عقم هذه السلسلة القاتلة أوصل البلد إلى عنق الزجاجة أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت الدول المانحة تمد المنظومة عموماً وأركان الحكم خصوصاً بالمعونة على شكل باريس 1 و2 و3 وسيدر وودائع وغيرها.

الانهيار المالي والاقتصادي الذي نعيشه لم يأتِ من السرقة والهدر والفساد وحسب، إنما - بشكل أساسي - جاء نتيجة طبيعية للنظام الاقتصادي المعتمد منذ التسعينات. فقد تم إلغاء "الاقتصاد" لصالح "المالية العامة" وتم تفويض إدارة المالية العامة لموقع وظيفي بيروقراطي لا يخضع للرقابة ولا المساءلة مع سلطة استنسابية هائلة. وأوجه الانهيار متعددة:

  • من جهة تبخرت الودائع بالعملات الأجنبية
  • من جهة أخرى خسرت الليرة قيمتها أمام الدولار
  • خسرت الليرة قيمتها الشرائية بسبب عدم وجود ما يمكن لليرة أن تشتريه، بسبب عدم وجود إنتاج داخلي. بالتالي خسرت آلاف العائلات قيمة مداخيلها وخسرت مدخراتها ورواتبها التقاعدية، وخسرت الصناديق التعاضدية (النقابات والضمان وغيرها) مدخراتها بما يهدد دورها ووظيفتها الاجتماعية والحياتية بالنسبة لمنتسبيها. بالتالي ما خسره الناس، ليس مجرد أرقام، إنما الآمان الاجتماعي والصحي والغذائي والاقتصادي.

 

الأمان الاجتماعي

المهمة الاولى والاكثر إلحاحاً: مواجهة الانهيار وعكس مساره الإنحداري المستمر، فحتى الآن لم يظهر قاع الانهيار بفضل سياسات وممارسات مستمرة تعكس رفضاً وتنكراً من قبل الإدارة السياسية والمالية لتغيير مسارها.

أولاً علينا إعادة تعريف الاقتصاد، وإعادة الاقتصاد إلى وظيفته الحقيقية في خدمة حياة الناس ومصالحها وأمنها وأمانها وسعادتها ومستقبلها. الاقتصاد ليس وسيلة أو أداة للألاعيب الحسابية لمراكمة الثروات وتوزيع الأرباح الوهمية، فالأرقام تبقى ارقام ما لم تتحول إلى قيمة مادية تؤمِّن الرخاء والأمان للناس.

الخروج من الانهيار يتطلب تغييراً شاملاً في النموذج الاقتصادي، بدايةً عبر إسقاط أسطورة النظام المصرفي عبر إنهاء قانون السرية المصرفية وهيكلة المصارف لتقوم بدورها المجتمعي بتمويل النشاط الاقتصادي بهدف تنميته بشكل مستدام، والتفاوض مع المصارف لجدولة الدين العام بعد شطب الفوائد المتراكمة واستعادة أموال الهندسات المالية، وتقييم موجودات/مطلوبات المصارف بشكل عادل. وتحميل المصارف وأصحابها ومدرائها وشركاؤهم في السلطة، تحميلهم المسؤولية القانونية والمالية لإساءة الأمانة والاستثمار عالي المخاطر، ما أدى إلى تضييع أموال المودعين والصناديق الادخارية والتعاضدية الخاصة بالنقابات والضمان الاجتماعي وغيرها التي تعنى بحياة وطبابة وتقاعد آلاف العائلات.

توجيه الثروة نزولاً، من فوق إلى تحت عبر نظام ضريبي تصاعدي ومباشر على الثروة والربح والريع والرفاهية بعد إلغاء الضرائب غير المباشرة والرسوم التي تطال السلع والخدمات الأساسية، لتمويل الخدمات الأساسية.

إضافةً إلى الدفع باتجاه تعميم نموذج التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية والخدماتية، بما فيها الخدمات المالية كالإتحادات الائتمانية عبر تشريعات ونظم مناسبة. تطوير هذا الشكل من المؤسسات يعطي قيمةً مجتمعية للعمل عوضاً عن قدسية الربح، كما يطور نمط علاقات اجتماعية جديد يقوم على العمل الجماعي والمسؤولية المشتركة والتشاركية في القرار والمصلحة والافادة.
تحويل الاقتصاد من إستهلاكي-ريعي إلى اقتصاد انتاجي-تعاوني ينطلق من السعي لتحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي في المجالات التي يمتلك لبنان مقومات نجاحها، لهذا فإن الاستثمار في الزراعة والبيئة وصناعة الدواء والطاقة النظيفة تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي والأمن الدوائي والصحي والأمن الطاقوي، حيث تخفف من الاعتماد المفرط على الاستيراد ويقلل من الحاجة على الدولار لشراء هذه السلع والخدمات الحياتية الأساسية ويحمي الناس من تقلبات سعر الصرف ويعزز قيمة الليرة الشرائية. كما تحقق الأمن الوظيفي بخلق آلاف فرص العمل الدائم والمستدام لكافة المقيمين.

إن تخفيف الاعتماد على الاستيراد - خاصة في السلع والخدمات التي يمكن إنتاجها محلياً - يؤدي إلى خفض العجز في الميزان التجاري وخفض العجز في ميزان المدفوعات ويخفف الطلب على الدولار ويخفف الضغط على الليرة، خاصةً أن استيراد المنتجات الغذائية والطبية ومشتقات النفط تشكل حوالي نصف قيمة ما يستورده البلد سنوياً. يمكن لذلك أن يتحول على المدى المتوسط إلى فائض في ميزان المدفوعات، وعلى المدة الأطول إلى فائض في الميزان التجاري، ما يمكنه أن يحقق وفرة في الدولار بالتالي يسمح بتحسين سعر صرف الليرة ويسمح باستعادة ما تم امتصاصه من الودائع المصرفية وتعويض خسائر الناس والنقابات والصناديق.

في خضم هذا المسار- أي من وقف الانهيار وتحميل الخسائر لمن تسبب بها، وصولاً إلى الاستثمار لبناء اقتصاد انتاجي-تعاوني ذات قيمة مجتمعية - يتم تأمين الحماية الاجتماعية الفورية عبر إجراءات جذرية تهدف لتأمين التغطية الصحية والتعليم المجاني والسكن اللائق لكل الناس.

لذا الهدف الاساس: غذاء وصحة وتعليم وسكن وعمل وأمان للجميع.

مسار الأمان الاجتماعي: يمكنكم الإطلاع على المسار المفصل عبر الضغط هنا

 

العقد الاجتماعي الجديد

إن النظام السياسي اللبناني الحالي جعل الانتماء الهوياتي انتماء طائفياً، وفرضه في القوانين وكرسه في الدستور. ولكن من قال أن الانتماء الديني أو الطائفي هو الشكل الوحيد الممكن للانتماء؟ من الممكن الانتماء إلى مشروع أو إلى مجتمع تربطه مصلحة مشتركة اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو نمط معين من الحياة. جميع أشكال الانتماء مشروعة. الأساس هو أن نمنع الهيمنة وجميع أشكالها المباشرة وغير المباشرة.
مشروع "لِ حقي" السياسي لم تتم صياغته لكي يجيب على هذه الهواجس حصراً. لكنه، واقعياً، يجيب عليها لأن مشروع "لِ حقي" السياسي ينطلق من الانحياز للناس ولمصالح الناس. وينطلق من قناعة أن لا أحد يعرف مصالح الناس أكثر من الناس أنفسهم. لذلك نحن نرى أن أفضل شكل لكي ينظم المجتمع والبلد نفسه هو من خلال تقسيمات مناطقية صغرى تتيح للناس الإدارة الذاتية واتخاذ القرارات المتعلقة بهم بشكل مباشر ودون بيروقراطية، وبشكل يمنع كبار المهيمنين من التدخل بالناس من خلال دولة المحاصصة الطائفية: الدولة المركزية التحاصصية كما نسميها في "لِ حقي".

فإذن، إن المهمة الثانية المطروحة أمامنا تشكل الوجهة والرؤية التي تحكم عملنا وجهودنا، أمام انسداد أفق هيكل المنظومة المتهالك يجب العمل لبناء هيكل مغاير يستند إلى العقد الاجتماعي الجديد الذي يؤسس لنظام اللامركزية والعلمانية والعدالة الاجتماعية.
إن هذه الرؤية تتمحور حول العناوين الثلاثة التالية:

اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة وتحقيقها يتطلب تغيير تقسيم لبنان الإداري إلى تقسيم أكثر تعبيراً عن واقع الناس الاقتصادي والاجتماعي بدلًا من التقسيم الإداري الحالي الذي يعبر عن مصالح النظام الطائفي. وفيما يتمتع كل قضاء بالاستقلال الإداري والمالي، تحتفظ الدّولة بصلاحيّاتها المركزيّة بكلّ ما يتعلّق بالنّقد والدّفاع والسّياسة الخارجيّة والعدل والتّعليم والحماية الاجتماعيّة والأحوال الشّخصيّة، بالإضافة إلى السّياسة الضّريبيّة العادلة التي تكون متعددة المستويات على مستوى الدولة وعلى مستوى القضاء.

العلمانية الديمقراطية: فلكي لا يتحول البلد إلى بلد متشرذم لكانتونات طائفية، تدار اللامركزية الموسعة من خلال قوانين مدنية علمانية موحدة وسياسات خارجية موحدة وسياسة مالية موحدة وسياسات اجتماعية موحدة تضمن العدالة وتقدم التأمينات الاجتماعية للجميع. إن القانون المدنيّ الموحّد للأحوال الشّخصيّة، قانونًا يشمل شؤون الزّواج والحضانة والوفاة والميراث وإعطاء الجنسيّة، ويعتمد المساواة الكاملة بين المرأة والرّجل ومعايير موحّدةً فيما خصّ حقوق الطّفل، هو أساسي في هذا المجال. تضاف إليه سلة قوانين تقوّض استخدام الطوائف في السياسة والدولة مثل قانون خاصّ للأحزاب السّياسيّة، وقوانين تجرّم الخطاب السّياسيّ العنصريّ الّذي ينتقص من حقّ أفرادٍ أو جماعةٍ ما بالوجود. هذا بالإضافة إلى جميع الإجراءات والقوانين التي تحقّق الفصل الكامل للدين عن السياسة والدولة، واعتماد قانون انتخابيّ جديد وعادل يحقّق العدالة في التمثيل، يكون وفق مبدأ النّسبيّة باللّوائح المقفلة، ومن دون حاصل أو عتبة نجاحٍ، خارج القيد الطّائفيّ، والدّوائر هي سبع محافظات يتشكل كلّ منها من 5 خمسة أقضية. هذا فضلًا عن إلغاء جميع امتيازات المؤسسات والشخصيات الدينية، وفرض ضرائب على الأوقاف والمؤسسات الدينية وجميع الأشخاص المعنويين التابعين لها.

العدالة الاجتماعية التي تشمل التغطية الصحية الشاملة والحماية الاجتماعية لجميع سكان لبنان، واتخاذ جميع الإجراءات والسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تكفل التوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص وتنهي الامتيازات في المجتمع وتحقق المساواة القانونية والاجتماعية الكاملة، وتكفل للجميع الحق بالوصول إلى الغذاء والصحة والتعليم والسكن والعمل والأمان.

مسار اللامركزية العلمانية: يمكنكم الإطلاع على المسار المفصل عبر الضغط هنا

 

انتخابات 2022

في سياق المواجهة المستمرة مع المنظومة بمكوناتها وأركانها في كل الساحات والميادين، يأتي قرار المشاركة بالانتخابات النيابية العامة 2022، رغم أن الانتخابات النيابية لطالما شكلت أحد أدوات المنظومة لتشويه الحياة السياسية ومصادرة التفويض الشعبي بسبب عقود التشويه للعملية الديمقراطية عبر اعتماد قوانين انتخابية مسِخة معروفة النتائج مسبقاً.

بعيداً عن أي أوهام، إن المشاركة في الانتخابات هي أحد أشكال التعبير السلمي، وأحد الوسائل للدفع باتجاه التغيير التدريجي، وأحد الأدوات لتعزيز وتوسيع القاعدة الشعبية للحالة التقدمية التغييرية عبر التنظيم القاعدي التشاركي.

إن قرارنا بالمشاركة هو لضم الجهود مع القوى التغييرية التي تؤمن بجذرية التغيير وشمولية المواجهة، ورفض أي عمليات تجميل للمنظومة أو تزيين للمجلس النيابي القادم.

المسار التشريعي: يمكنكم الإطلاع على المسار المفصل عبر الضغط هنا