تخطى إلى المحتوى

السعادة – السعي الدائم – سامر العياش #لِحَقّي

SA-featured

سامر العياش - "السعادة" سعي دائم.

15 ايار 2020

الحلم
جلس جدّي الأول – وَجَدّْ بضعة ملايين من البشر الاحياء اليوم – امام كهفه، يراقب زوجته تطعم اطفاله ما جمعه صباحاً من بعض الأشجار والنبات المحيط به. ينظر الى الوادي الممتد امام الهضبة الصغيرة التي يقطنها مع ما يزيد قليلاً عن 150 من اخوته وأبناء عمومته وانسبائه وابنائهم وبعض الاحفاد. يلاحظ كيف تتحرك الآلاف من الحيوانات مثل الموج الذي يرافق مجرى النهر. يلفح وجهه نسيم يميل الى البرودة ليذكره كيف كان يحمله والده لأيام عديدة سيراً على الاقدام جانب مجرى النهر الى ان يصل الى البحر، كي يهرب من المطر الشديد والثلوج التي تأتي بالمرض والموت المحتم.
فجأة يسمع صوتأ عالياً، يدركه: انه نداء الصيد. لقد آن الوقت لتقوم القبيلة الصغيرة بالإغارة على احد قطعان الحيوانات لتأمين طعام العشاء.
في الليل تجتمع القبيلة الصغيرة حول النار لتستمتع بوليمتها. لكن جدي كان غارقاً بأفكاره، يشعر ببعض الحزن لأنه يشعر أن القبيلة باتت كبيرة للغاية وحان الوقت لتنقسم مجدداً، فالمكان يضيق والمواد تقل، فعلى جزء من القبيلة ان ينتقل الى مكان جديد.
رغم أنه وأبناء وبنات جيله كانوا يمضون ساعات طويلة يتنعمون بالطبيعة، الا انه كان يشعر دائماً بنقص ما. كان يحلم باليوم الذي لن يحتاج فيه ان يسير لأيام وايام هرباً من الحر القادم او الثلج الزاحف، يحلم باليوم الذي لن يحتاج فيه بأن يسير يومياً لمسافات كبيرة ليجمع بعض ثمار الأشجار أو الجذور، يحلم باليوم الذي لن يحتاج فيه لتعريض نفسه وأترابه للخطر للهرب من أسود جائعة او للإمساك بثورٍ هائج ليكون طعاماً للعشاء. هذا الشعور بعدم الامتنان والرضا، مصحوباً بساعات وايام وحتى قرون طويلة من المراقبة والملاحظة سمحت لأبناء تلك الحقبة الى إيجاد الرابط بين تبدل الطقس بشكل دوري وبين نمو النبات والأشجار وثمارها، ثم بين هذه الدورة وبين وضع الحبوب والبذور في التربة... فكانت الزراعة.
جدي الصياد الأول كان يملك ما على الأرض وما تحتها، كل ما تقع عليه عينه وتطاله يده. لا حدود له سوى الطبيعة نفسها، فهو كان جزءاً منها، من تناسقها. عاش الاف السنين يتنقل هرباً من سيل جارف، أو حر خانق أو صقيع قاتل، حتى بلغ كل بقاع الأرض، حتى تلك التي باعدتها كيلومترات عديدة من البحار قبل أن نعيد التواصل مع بعض اقاربنا فقط منذ 500 سنة فيما اسميناها اميركا وقبل 300 سنة فيما اسميناها استراليا.
------------------
أحفاد الصيادين – اجدادي وجدّاتي المزارعون الأوائل كانوا سعداء بأنهم لا يحتاجون للسير والسفر لمسافات طويلة، فغذاؤهم بات متوفراً على مقربة منهم، وكانت الأراضي واسعة ومتوفرة للجميع. ومع ازدياد عدد افراد القبيلة، ازدادت الحاجة للموارد وبالتالي ازدادت الحاجة للأرض للزراعة، الى ان وصلوا الى حدود الأراضي المزروعة للقبيلة الأخرى. وما حدث على مستوى القبيلة ككل والقبائل المجاورة، حدث على مستوى العائلة والعائلات المجاورة. فبات لزاماً رسم الحدود بين الجيران، فولدت الملكية الفردية والعائلية، وولدت الممالك بحدودها واقاليمها واراضيها، ثم بجيوشها وآلهتها للحماية من غضب الآخرين ومن غضب الطبيعة وقواها الخفية.
اجدادي وجدّاتي المزارعون ورثوا بعض العادات السيئة عن اجدادهم الصيادين، سيما الشعور بعدم الاكتفاء والرضا بما لديهم. اضطرارهم للعمل في زراعة اراضيهم لساعات طويلة تحت الشمس وفي العراء وفي أوقات محددة من السنة، لم يكن يشعرهم بالسعادة، فبدأوا البحث عما يمكنه ان يخفف التعب عنهم قليلاً، فوجدوا ضالتهم في بعض الحيوانات التي نجحوا بترويضها، فأصبحت مصدر قوة عمل ومصدر غذاء مضمون ومتجدد.
عقودٌ وقرونٌ وألفِيّاتٌ تمر، لم تعد الأرض تكفي لإطعام سكانها ولم تعد الحيوانات كافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة لأعداد البشر المتزايدة. الحاجة والرغبة والفضول وتلك الجينات الموروثة التي جعلت منا مخلوقات جشعة وساعية الى التفوق والهيمنة على كل ما يحيط بنا، دفعتنا الى البحث والتطوير والاختراع واستكشاف طرق بحرية جديدة أوصلتنا الى عالم جديد. وتطور بنا الحال حتى الوصول الى الثورة الصناعة منذ قرنين تقريباً.
لم تعد الإبل والماشية تكفينا للزراعة او النقل، فأردنا آلات لتقوم بالعمل عنّا وعن ماشيتنا. باتت الحِرَف التي نمتهنها مضنية، فأردنا الآلات لتغزل صوفنا وتحيك ملابسنا وتعدّ طعامنا وتصهر حديدنا. اخترعنا المحرك البخاري وحفرنا الجبال لنأتيه بالفحم الحجري – الكثير الكثير من الفحم. وكان النعيم الجديد: انتاج اكثر، مجهود جسدي اقل ونحن لا نحرك سوى أيدينا أو أصابعنا وأعيننا، تطوُّر وعلوم وحضارة.
ولكن، ككل جديد لا يدوم طويلاً، حتى هذا الجهد الجسدي القليل الذي نقوم به أصبحنا نبحث في كيفية تقليصه، فبدأنا باختراع البرمجيات والذكاء الاصطناعي. نريد للآلات أن تعمل وتقرر بنفسها، فبدل تشغيل الآلات بأنفسنا كتبنا البرامج والكودات الطويلة كي لا نحتاج سوى بضعة ازرار، واليوم نريد استبدال الازرار بالاوامر الصوتية. الرسائل (والمعلومات – اي البيانات) التي كانت تتطلب اسابيع لتنتقل من مدينة إلى أخرى، اشترت بطاقة لركوب القطار البخاري فباتت تستغرق ايام قليلة أو ساعات عدة، لكن ذلك لم يكفِنا فبات بإمكاننا نقل كل المعلومات المتوافرة في مكتبة الكونغرس إلى القمر بدقائق قليلة. ما هذا الحلم الذي نعيشه؟!
------------------
خيبة الامل
لا حدود لأحلامنا – صحيح. لكن الأصح أن لا حدود لطمعنا وجشعنا، نريد المزيد، نسعى دائماً الى ما يثير حماسنا، نؤمن دائماً ان سعادتنا تكمن بعد خطوتنا التالية، وحين لا نجدها هناك، نقوم بخطوة جديدة علّنا نصل الى السعادة المنشودة.
كنا نعيش بتناغم تام مع الارض والطبيعة وكافة المخلوقات، رأينا ان سعادتنا في الاستقرار: في الزراعة والترويض الحيوانات وتربيتها. لكننا شَكَوْنا وعانينا من العمل والجهد وضرورة الاحترام الصارم لمواعيد الزرع والحصاد. عانَينا الحروب والموت المحتّم والدمار لنمتلك المزيد من الارض لنزرعها. عانينا الأمراض التي لم تكن موجودة من قبل: يكفي ان المستعمر الاوروبي في القارة الجديدة خلق نظام العبودية واستجلاب الرق من افريقيا للعمل بدايةً في مزارع اميركا الوسطى والجنوبية لعدم قدرته مقاومة الملاريا بعكسهم.
السعادة التي جلبها الاستقرار من جراء الزراعة انتهى تأثيرها، فسعينا الى مصدر جديد للسعادة، رأيناها في "اختراع" من يعمل بدلاً عنّا. دخلنا طور الثورة الصناعية حالمين بساعات عمل اقل وانتاج زراعي اكثر يكفي البطون الجائعة. لكن أي سعادة جلبتها مدن الفحم والدخان الاسود المكتظة، بدلاً عن قرى والحياة في الاراضي الزراعية الشاسعة! أي سعادة تولدت من جراء العمل اليومي لساعات طويلة بدلاً عن العمل الموسمي في الاراضي الزراعية! أين السعادة التي جلبتها الثورة الصناعية لآلاف الأطفال الذين كانوا يعملون في المشاغل والمعامل – يكفي التفكير انه في العام 1819 كان مجلس اللوردات البريطاني يناقش منع عمالة الاطفال دون التاسعة في محالج القطن، وتحديد ساعات عمل الاطفال بين 10-16 عام ب12 ساعة عمل يومياً فقط. وأنه في العام 1911 أُحْرِقَت 146 عاملة في نيويورك داخل المصنع حيث يعملن.
من جديد، سعياً لمزيد من السعادة، او لاستعادة الحلم المفقود بالسعادة المنشودة، طورنا ولا نزال الانظمة والقوانين والتقنيات والبرمجيات. عوضاً عن ساعات العمل الطويلة والمرهقة، ادخلنا نُظُم إدارة وبيروقراطية معقّدة وتزيد من الضغوط النفسية على العاملات والعمال، خاصة مع الميل المتزايد الى تحرير سوق العمل والتوظيف من الضوابط وتركه تماماً لمبادئ السوق والعرض والطلب. طوّرنا وسائل الاتصالات بما يسهِّل ويسرِّع انجاز الاعمال فأصبح بالامكان إنجاز نفس العمل بوقت اقل، لكننا أصبحنا لصيقين اكثر بأعمالنا على مدار اليوم عبر هواتفنا الذكية وحواسيبنا، وبات المطلوب هو المزيد من العمل والانجاز.
كلما سعينا الى المزيد من السعادة، غرقنا اكثر في الوحول، في المآسي. شهدنا الحروب والامراض والمجاعات والحزن – الكثير من الحزن. ليست مصادفةً تلك العلاقة العكسية بين تطور الامراض وبين سعينا الدائم نحو السعادة، أي العلاقة الطردية بين تطور الامراض وتطور البشرية نفسها. كل الاديان والايديولوجيات ادّعت السعي الى تحقيق الوعد بالسعادة، ان لم يكن على الارض ففي ارض موعودة، وإن لم يكن أثناء حياتنا، ففي حياة ثانية.
---------------
الأمل
كما الامس واليوم كما الغد، الوعد بالسعادة لن يأتي من المزيد من التقنيات والمزيد من النظم الاقتصادية و\أو الإدارية، لن يأتي عبر المزيد من تطوير الذكاء الاصطناعي او بناء مستعمرات بشرية على المريخ او على Kepler-452b، حتماً لن يأتي بمراكمة الارباح وتكديس الثروات وخلق المزيد من السلع الاستهلاكية لتسليتنا.
منذ عقدين او اكثر قليلاً نحن نعيش عصر ثورة الاتصالات والمعلوماتية، التي بدأت تفرز خصائصها المختلفة والمميزة عن العصر السابق، فالعالم الذي يصبح اصغر تتغير فيه نظم التجارة والصناعة والاقتصاد، بات اكثر واسرع تفاعلاً مع التطورات والتغيرات السريعة. اذا ما استمر هذا، فإننا حتماً سنشهد في العقود القليلة القادمة تغيّراً كبيراً في الأنظمة السياسية والمالية والاقتصادية. لكن لا شيء يشير ان النظام الجديد سيكون أكثر عدلاً أو ان البشر سيكونون اكثر سعادة – اقله لن يكون كذلك بشكل تلقائي، ما لم يدرك البشر هذا المسار وما لم يدرك البشر أن من واجبهم تحسين الأرض وتحسين مستوى ونوعية الحياة على كوكب الأرض – او ربما على كواكب أخرى – وكأنها منزل جبلي مخصص لإجازة صيفية طويلة.
يصدف أننا اختبرنا خلال الاشهر القليلة الماضية نمط حياة جديد ومختلف بسبب الكورونا، حياة أبطأ قليلاً حيث لا استهلاك مفرط – والتركيز على للأساسيات. أكتشفنا اننا يمكننا ان نحيا دون ان نخنق كوكبنا بأطنان من الكربون، ويمكن للاقتصاد ان يستمر دون الأرقام المليارية في البورصات – وربما دون البورصات نفسها، ويمكن لما يكفي من الأعمال ان تُنجَز بساعات عمل اقل. أكتشفنا أن "التسليع الزائد" للخدمات الاساسية - الذي لطالما نظّر له اقتصاديين وسياسيين من دعاة الحرية المطلقة للسوق بحجة تحسين نوعية هذه الخدمات - فشل في تحقيق أهدافه الموعودة. واكتشفنا أن للأرض القدرة على تنظيف نفسها من سمومنا إذا ما أعطيناها الفرصة لذلك، لكننا ايضاً اكتشفنا الحاجة الاكبر لمساحات خضراء مفتوحة بدل المكعبات السكنية المسماة شقق ما يحتم علينا إعادة النظر في أسلوب استهلاكنا لثروات الأرض وحماية التوازن الطبيعي الدقيق وإعلاء قيم المحافظة والوقاية عوض تبنّي المعالجات اللاحقة. أكتشفنا أن للبشر طبيعة جيدة، تقدِر على ممارسة اعلى مستويات التضامن والتكافل الاجتماعي، لكن على هذا التضامن ان يتطور نحو المزيد من العدالة في توزيع المنافع والثروة، والعدالة في الوصول لمصادر الثروة والعمل، ونحو زيادة قدرة المجتمعات على الاكتفاء الذاتي، بما يتطلبه ذلك من تكريس وتطبيق مفاهيم العدالة الاقتصادية والديمقراطية الاقتصادية وإعادة القيمة الاساسية للإقتصاد بوصفها وسيلة تخدم المجتمع وحياة الناس وليست لعبة أرقام وأرباح.

في أمل؟ أيه في أمل!