تخطى إلى المحتوى

توفيق الصايغ – حتّى لا تذهب دماء الشهداء هدرًا – #لِحَقّي

Sayegh

حتّى لا تذهب دماء الشهداء هدرًا...
أين النخب في هذه اللحظة التاريخيّة؟

في الرواية الشهيرة "بطل هذا الزمان"، أظهر ميخائيل ليرمانتوف الأثر المدمّر للأنانيّة والسعي إلى الخلاص الفرديّ الّذي يقود، حتّى أصحاب العقول المتنوّرة، إلى فهمٍ هشٍّ وخاطئٍ للحياة.
ليرمانتوف شاعرٌ روسيٌّ، لم يصمت على مقتل بوشكين وأنذر قتلته (المحتمين بالتاج القيصريّ) بالثأر وحكم الشعب. ولعلّ أنّنا، في لبنان، لسنا بحاجةٍ إلى ليرمانتوف لبنانيٍّ بقدر ما نحن بحاجةٍ إلى أفكاره في التوحّد ومواجهة الظلم والتحرّر من حكّامه الّذين صحّ فيهم قول الرصافيّ: "قد استأثروا بالحكم وارتزقوا به، وسدّوا على من حولهم منبع الرزق."

فيما القوى العالميّة تحاول تثبيت مواقعها، علينا (قبل أن نباشر بالتصرّف) أن نقف قليلًا متأمّلين في تشكّل الخريطة السياسيّة الجديدة للعالم، وأن نعود ونطرح الإشكاليّة: ماذا عسى أن نصير إليه بعد أن تنتهي الجبابرة من صراعها؟

شهد العالم، على مدى العقود الماضية، صراعاتٍ. سقطت إمبراطوريّاتٌ وقامت أخرى... فبعد هبوط الإمبراطوريّة البريطانيّة، صعدت قوّتان عالميّتان: الولايات المتّحدة الأميركيّة (الرأسماليّة)، والاتّحاد السوفياتيّ (الشيوعيّ). وبعد صراعٍ أُنهك فيه الطرفان، سقط السوفيات وتصوّرت بلاد العمّ سام نفسها وحيدةً على عرش الحكم، فزادت رغبتها بتعظيم مكاسبها وحاولت الفصل بين مواقع الإنتاج وموقع رأس المال. وبالتالي، نقلت معظم صناعاتها إلى آسيا، حيث التكتّلات السكّانيّة الأكبر.
مع النموّ الاقتصاديّ الكبير، تشكّلت قوى عالميّة جديدة ومنافسة على الساحة العالميّة، أبرزها الصين، وقد تفوّقت على أميركا اقتصاديًّا وقدّمت للعالم تجربةً مذهلةً في التنمية وتنظيم الإنتاج وغيرها. لكنّ الصين بقيت، من حيث عدد السكّان ونظام الحكم فيها، نموذجًا غير قابلً للنقل.

أوروبا هي الأخرى الّتي كانت في السابق بحاجةٍ إلى الولايات المتّحدة، باتت اليوم تبحث عن دورٍ في النظام العالميّ الجديد، ولا تزال لديها بقايا الاعتزاز الإمبراطوريّ. لكنّها فقدت قوّة الإمبراطور، بالإضافة إلى مشاكلها الاقتصاديّة. وظهرت ملامح الضعف في زيارات الرئيس الفرنسيّ ماكرون إلى لبنان وما أسفرت عنه اجتماعاته مع المسؤولين اللبنانيّين في كازينو غابة الصنوبر، الّذي بناه عزمي بك بشارة العثمانيّ قبل أن يرث البلاد خلفاء نابوليون.

نحن في عصر العولمة، وأبرز ما فيه صراع قطبيه: الأميركيّ والصينيّ. في هذا الصراع، تعتبر إيران وتركيا وباكستان نقاطًا جغرافيّةً استراتيجيّةً، بحيث تشكّل مرتكزاتٍ فيها المرتفعات المشرفة على السهول الآسيويّة الواسعة، وهي كذلك محطّاتٌ هامّةٌ في "طريق الحرير الجديد"، مشروع الصين للحاضر والمستقبل.
لسيّد البيت الأبيض نفوذٌ في تركيا وباكستان، وهو يسعى إلى نفوذٍ في إيران. من هذا المنطلق، كانت حتميّة العودة مع الرئيس المنتخب جو بايدن إلى الاتّفاق النوويّ، بعدما أنهك سلفه ترامب النظام الإيرانيّ بالعقوبات الاقتصاديّة.

في مقابل النفوذ الأميركيّ، مطامع إيرانيّةٌ وتركيّةٌ في الشرق الأوسط، وهي مشروعةٌ بحيث أنّ الفارسيّة والعثمانيّة حضارتان قديمتان وراسختان، في حين أنّ معظم الدول في الشرق الأوسط مستجدّة!
أمّا دول الخليج العربيّ، وبعد انتقال السلطة فيها إلى جيلٍ جديدٍ، فتحاول قدر استطاعتها ألّا تبقى مرتهنةً بالكامل للأميركيّ. فكان الصلح مع العدوّ الإسرائيليّ، حيث تجد هذه الدول ضالّتها في محاربة مطامع الفرس. وما القمّة الخليجيّة الأخيرة إلّا محاولة لتحصين نفسها ممّا قد يتبع الاتّفاق النوويّ بين بلاد العمّ سام وبلاد فارس.

في سياق التوصيف العامّ، لا بدّ من التطرّق إلى ما ذكره صمويل هنتنجتون في كتابه "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالميّ"، أنّ للدين دورًا هامًّا في السياسة العالميّة، وقد ملأ الفراغ الناجم عن فقدان الأيديولوجيا السياسيّة. أمّا الحضارة الغربيّة، بحسب هنتنجتون، فقد باتت تواجه تحدّيًا داخليًّا يتمثّل في تآكل القيم الإنسانيّة والمعتقدات داخلها. فهل يشكّل صدام الحضارات والصراعات الطائفيّة بين الدول والجماعات عاملًا في إعادة تماسك الحضارة الغربيّة، وبالتالي تُفتح ساحات صراعٍ جديدة؟

إذًا، العالم أمام لحظةٍ لا تتكرّر كثيرًا في حياة الشعوب، هي لحظةٌ تحدّد فيها المصائر والمسارات. لذلك، الحاجة ملحّةٌ لأن نكون "نحن" في مواجهة التحدّيات، لا "أنا" و"أنت" منفردين، وأن نسعى جميعًا لخلاص الوطن لا الطائفة أو الجماعة حتّى لا نهلك جميعًا.
كلّ الدول لها مطامع، ومنها إيران وتركيا، وهذا من طبيعة الدول. لكن، لماذا لا نضع مطالبنا في مواجهة هذه المطامع؟

في اللحظات التاريخيّة الفاصلة بين نظامين، على الدول الصغيرة أن تُنشئ تحالفاتٍ تجعلها أكثر قوّةً في مواجهة التحدّيات. أمّا في لبنان، فنحن منغلقون على أنفسنا بسبب طبقةٍ حاكمةٍ سقطت ورقة التين عنها وظهر عوارها بعدما أفلست خزينة الدولة، وكلّ طرفٍ فيها مأزومٌ نتيجة تراجع شعبيّته وحجم تأثيره في بيئته، بالإضافة إلى وقف الدعم الخارجيّ. هذا يدلّ على أنّ القيادات السياسيّة مقصّرةٌ عن اللحاق بالحقائق.
لماذا لا نقدّم نموذج حوار الحضارات وتعايش الشعوب بسلامٍ، رغم اختلاف مذاهبها؟ وبالتالي، نكمل ما بدأناه في انتفاضة 17 تشرين؟ فالقوى الثوريّة والتحرّريّة تجد باستمرارٍ أصدقاء في كلّ مكان، في أوروبا، في أميركا... لأنّ هناك قضيّة تجمعهم. لماذا لا نُنشئ قيادةً جديدةً تكون حكيمةً، قادرةً على رؤية التيّارات والأمواج والسحب وعلى استقراء ما وراءها؟ فنحن بأمسّ الحاجة إلى تصوّرٍ مستقبليٍّ للنهوض. إنّها محاولةٌ لاستنهاض النخب، ولطالما كان التغيير في تاريخ الأمم والحضارات من عمل النخب المستنيرة.

*تعتبر لِحَقّي "الكلمة للناس" مساحةً مفتوحةً لمقالات الرأي. بالتالي، المواقف والمقاربات الّتي ترد في هذه المقالات المنشورة، لا تعبّر عن رأي وموقف التنظيم، بل عن آراء كتّابها وكاتباتها.