تخطى إلى المحتوى

نسخة من ١٧ تشرين الأوّل ٢٠١٩، عندما بدا للوطن وجهٌ يشبهنا

التغيير بصبغة أبويّة - غنى العنداري

١٧ تشرين، كارتباطٍ عاطفيٍّ

غنى العنداري

16 تشرين الثاني 2020

سأصارحكم وأصارحكنّ منذ البداية. لست بوارد التحليل المنطقيّ، كما لست على استعدادٍ للغوص في مسار التشرينين ما بين ٢٠١٩ و٢٠٢٠ وتفنيد أين أصبنا وأين أخطأنا. وعلى عكس كلّ المقالات الّتي ارتأى كتّابها وكاتباتها الاستعجال لتعلّم الدروس والتخطيط مستقبلًا، أنا هنا للوقوف عند الأطلال، كما يحلو لشرطة المشاعر الاستهزاء بتعلّقنا العاطفيّ ب ١٧ تشرين الأوّل وما يعنيه لنا هذا التاريخ. لكن حذارِ من أن تظنّن أنّ ١٧ تشرين باتت في معرض الأطلال، فهي حتمًا مستمرّةٌ وإن استكانت قليلًا أو تمظهرت بأشكالٍ مختلفة.

بالنسبة إلى شرطة المشاعر الّتي لم تترك الناس وشأنها قبل وبعد السابع عشر من تشرين هذه السنة، دعنا من هذه السماجة ولندع الناس تعبّر عن فيض مشاعرها كيفما يحلو لها. لذلك، وبناءً على ما تقدّم، سأتناول انتفاضة ١٧ تشرين من شقّها العاطفيّ، كما عشتها تلك الليلة وفي الأيّام الّتي تلت، وكما يعيشها الناس العاديّون بعيدًا من البرامج السياسيّة والتحليلات المطوّلة.

من الحماقة قمع المشاعر أو فصلها عن السياسة. فنحن لا نختبر سياسة التهجير الّتي تنتهجها المنظومة من بابها التقنيّ، نحن نختبرها بآخر لقاءٍ مع أحبّتنا وبتوديعهم/هنّ على المطار. نحن لا نعيش الانهيار الاقتصاديّ عبر دراساتٍ اقتصاديّةٍ وتعابير غريبةٍ يصعب على معظمنا فهمها أو لفظها أحيانًا، نحن نعيشها ذلًّا على أبواب المصارف وفي الطوابير أمام محطّات الوقود. نحن لا نتنبّه لخططهم الأمنيّة وسياسات ترهيبهم وبطش أجهزتهم وأزلامهم، لكنّنا نعيش الخوف في كلّ مرّةٍ يمطروننا بالقنابل الدخانيّة والرصاص المطاطيّ والحيّ. نعيش الرعب في كلّ ساحةٍ تطوّقها فرقٌ من الجيش ومكافحة الشغب، ونعلم سلفًا أنّ لنا رفاقًا ورفيقاتٍ ستُفقأ عيونهم/هنّ وسيخرجون من الساحات بإصاباتٍ دائمةٍ، ومنهم/هنّ من سيُخطف وتمضي ساعاتٌ وأيّامٌ قبل أن نعلم أين احتُجزوا وكيف عُذِّبوا.

نحن لم يخطر في بالنا كمّ البطش الّذي ألحقوه بنا حتّى بكينا "حسين العطّار" و"علاء أبو فخر" و"أحمد توفيق" و"فوّاز السمّان" والباقين. لم نعِ إجرامهم إلّا عندما قاموا بتفجيرنا في الرابع من آب، ورأينا دماءنا تسيل منّا ومدينتنا تُسوى بالأرض، ودفنّا الشهيد والشهيدة تلوى بعض.

لكنّنا، كما نعيش الحزن والخوف والقلق عبر الأحداث، كذلك نعيش القوّة والأمل. ١٧ تشرين ٢٠١٩ كانت تجلّيًا لقوّة الناس. فلمَ نبخل على الأشخاص وقوفهم عند تلك الذكريات وحديثهم عنها وأملهم بمثل تلك اللحظات؟ على مدار السنة الماضية، عشنا على المستوى المجتمعيّ القوّة والأمل؛ ونحن شعبٌ لم يعرف أنّ له قوّةً أو أنّه يعرف الأمل على مُضي عقود. شيءٌ ما حدث لنا؛ لحظات تَجمُّعنا وبَدء المسيرة، لم تكن مشابهةً لأيّ شيءٍ عشناه سابقًا! في تلك الليلة، كان الغضب يخيّم على كلّ شيءٍ، كنّا نعلم أنّ حقبةً جديدةً تبدأ.

هذه المرّة، عرفنا قوّتنا وعشناها. عشناها عندما توجّه كلّ الناس إلى كلّ الساحات بشكلٍ انسيابيٍّ دون أيّ اتّفاقٍ أو إعلانٍ مسبق. لم نحتج لأن نتّفق مسبقًا. أعلنّاها: "غدًا إضراب عامّ" وكانت البداية. عشنا القوّة مجدّدًا عندما قطعنا الطرقات، طوّقنا المجلس، أسقطنا الحكومة، نصبنا خيمنا وحميناها، وطردنا هؤلاء الأوباش من الأماكن العامّة. عشنا الصمود عندما تصدّى أهلنا في المناطق للشبّيحة، عندما افترشنا الأرض وشبكنا أيدينا منعًا لفضّ الاعتصام. نحن أدركنا أنّ لنا قدرةً كبيرةً على الحبّ. منذ ١٥ تشرين الأوّل، تضامنت المناطق مع صور والرينغ وطرابلس والنبطيّة والبقاع والشوف والبدّاوي وعاليه وجلّ الديب، بعد كلّ غارةٍ شنّها بلطجيّة المنظومة، وفي كلّ اعتصامٍ أمام الثكنات والمخافر وقصور العدل حتّى الإفراج عن المعتقلين والمعتقلات.

نحن نعيش الانتماء، لا عبر مناهج تعليمهم البالية، بل في كلّ مرّةٍ نمرّ بخيمةٍ أو ساحةٍ أو قبضةٍ مرفوعةٍ، ونتأكّد مجدّدًا أنّ هذا الوطن لنا على امتداده وسكّانه جميعًا أهلنا. نعيش الانتصار فرحًا، كفرحنا بانتخابات نقابة المحامين/ات وانتخابات طلّاب/طالبات الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة وإسقاط صفقة سدّ بسري.

الناس لا يستعيدون مجد انتفاضة ١٧ تشرين لأنّهم واهمون أو عالقون عندها، بل لأنّها تذكيرٌ بأنّ اليأس ليس مصيرنا. واجبٌ علينا تذكّر أنّ هذه انتصارتنا نحن، ويحقّ لنا الاحتفاء بها واستمداد القوّة منها، لأنّ المسار طويلٌ والأمل بمثل هذه الانتصارات ضروريّ.

أمّا بالنسبة إلى حاضرنا و١٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٠، فلا شكّ أنّ هذا اليوم لا يشبه مثيله من السنة الماضية وقد يكون مخيّبًا للآمال، ذلك أنّنا حمّلناه توقّعاتٍ لا تناسب وقته وتوقّعنا منه شكل انطلاقةٍ مماثلةٍ. مُتفهّمٌ جدًّا الارتباط العاطفيّ بذاك التاريخ، لأنّنا هكذا نشكّل روابط مع الأحداث: نحدّد لها تاريخًا، نطلق عليها تسمياتٍ وننسب إليها رموزًا. لكنّنا الآن في مرحلةٍ جديدةٍ، والمصائب الّتي تغرقنا بها العصابة الحاكمة مضاعفة. قدرتنا على المواجهة ليست نفسها، والإحباط الّذي نعيشه لا يفسح لنا المجال للاستمرار بالأسلوب نفسه. ونكون مخطئين جدًّا إذا اعتقدنا أنّ الإحباط هذا من صنع أيدينا. الإحباط واليأس هما سياسةٌ تنتهجها هذه المنظومة بكلّ حنكةٍ وخبث. وما هي إعادة تسمية الحريري إلّا إمعانًا بتعميم هذا الإحباط.

دعونا لا نسهّل هذه المهمّة عليهم. لنتوقّف عن جلد أنفسنا قليلًا ولنتّفق على بعض الأمور:

أوّلًا، لنحدّد علاقتنا بهم. نحن لسنا بمواجهةٍ مع دولةٍ، فمفهوم الدولة لا يصلح لتكتّل المافيات هذا. هؤلاء ليسوا سوى قتلة مجرمين من جائعي سلطةٍ ومال. فلتكن المواجهة على هذا الأساس!

ثانيًا، طفوليٌّ قليلًا التوقّع أنّ التغيير الّذي نرجوه سيحدث بهذا الوقت القصير. التغيير تراكميٌّ ويتطلّب منّا طول النفس والصبر. نحن بمواجهة احتلال، لذا لن يرحل المحتلّون عنّا بهذه السرعة، ليس إذا كان ما زال بإمكانهم ملء جيوبهم من جيوبنا المفرغة.

ثالثًا، علينا أن نتقبّل حقيقة أنّ النضال لا يكون على الوتيرة نفسها، وأنّنا سننتصر أحيانًا ونفشل أحيانًا أخرى، فنجرّب مجدّدًا. كذلك، علينا أن نعلم أنّ المواجهة ليست فقط في الشارع. الآن هي حتمًا ليست في الشارع! إذًا، فلننظّم صفوفنا ونبحث عن سبل مواجهةٍ بديلةٍ تناسب المرحلة الحاليّة.

ختامًا، من المحال أن يتوقّف التاريخ هنا. فالتغيير قادمٌ، هذه حقيقةٌ وليست نظم أشعارٍ. الأمر يعود لنا بأن نكون جزءًا من هذا التغيير.

هذا البلد سيكون لنا، والمواجهة مستمرّة!

 

غنى العنداري

#القوة_للناس