تخطى إلى المحتوى

الانتخابات النيابية المبكرة… وحصان طروادة – هاني عضاضة #لِحَقّي

الضاحية الجنوبية، لبنان

هاني عضاضة - الانتخابات النيابية المبكرة... وحصان طروادة

28 شباط 2020

يشهد لبنان، منذ 17 تشرين الأول من العام المنصرم، تصاعداً ملفتاً في السيرورة الثورية بدأ باندلاع انتفاضةٍ شعبيةٍ عارمة، عابرة للمناطق، ومتمرّدة على الاصطفافات المذهبية والطائفية. بادرت السلطة، منذ ذلك الحين، إلى اتّباع أساليب ووسائل متعدّدة، للتخفيف من وهج الانتفاضة، والحدّ من لا مركزيتها. فمن النشر المكثّف واليومي للشائعات، على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، ومن إثارة النعرات الطائفية والعنصرية، وتحريض من هم أشدّ فقراً وتضرّراً من منظومة الحكم الأوليغارشية ضد الانتفاضة، وترهيب الناس من "المجهول" و"الفراغ"، ومن الضغط المستمرّ لتفتيت صفوف الانتفاضة وإقناع الجماهير المتردّدة بانسداد آفاقها، عبر مهاجمتها بشراسة، تحت عنوان فقدانها - كما كل الانتفاضات الشعبية والعفوية في التاريخ - للجسم القيادي الهرمي، وتحميلها أعباء سياسية، تحوّلها في أذهان المتردّدين من الناس، من انتفاضةٍ شعبية ذات طابعٍ مطلبي وأفقٍ جذريّ إلى حراكٍ فئويٍّ ضيّق الآفاق، وصولاً إلى محاولات التسلّق الحثيثة من الداخل، على المستويين، السياسي والميداني، من قبل قوى سياسية طائفية لبست لبوس الثورة، ولكنها تساقطت الواحدة تلو الأخرى أمام أعين الجميع، وأمعنت في سقوطها في جلستي التصويت على الموازنة والثقة.

إلّا أن بعض القوى السياسية المنخرطة في الانتفاضة منذ اللحظة الأولى، والتي لم تتعرّض للسقوط إياه، بسبب تعزيزها لموقعها كمعارضةٍ "متمايزةٍ" من داخل المنظومة الأوليغارشية، بناءً على سلسلة من المواقف المعلنة، طوال سنوات، وانفتاحها في الوقت نفسه على القوى السياسية المعارِضة من خارج هذه المنظومة، ما وفّر لها هامشاً واسعاً للمناورة، هذه القوى بدأت بسلوك اتجاهٍ مضادٍ للثورة بالكامل، من داخل صفوفها بالذات، الأمر الذي يفاقم خطورتها ويضاعف من تأثيرها في نوعية الخطاب السياسي. وما بروز مطلب "الانتخابات النيابية المبكرة"، مع انتهاء الطور العفوي للثورة المتمثل بالانتفاضة الشعبية، وتظهير هذا المطلب بمثابة "خشبة الخلاص" و"الخيار الأوحد" لتحقيق انتصار الثورة سوى دليلٌ على ذلك. دليلٌ على كونها مكوناً غير عضويّ في الثورة لا يحمل هموم الطبقات الشعبية بصدق والتزامٍ نضالي ثابت، وعلى كونها حصان طروادة للثورة المضادة في الآن ذاته. فالقوى الثورية الفعلية، التي تعتبر أن الثورة عمليةٌ تاريخيةٌ معقدة وطويلة الأمد، ولا تزال تعتبر الثورة في مراحلها الأولية، غير مستعدة لخوض المعترك الانتخابي، وتشكيل قوائم انتخابية، وتحويل هدف الصراع من التخطي الكامل للمنظومة، إلى تشاركٍ للحكم فيها، تحت عناوين إصلاحية مخادعة لطالما أثبتت التجارب استحالة تطبيقها.

مسارُ الثورة والمسار الدستوري لا يتماثلان بالمطلق، فالثورة تمتاز بخاصية الهدم واستحداث كل جديدٍ من خارج البنية، متمرّدةً على الثقافة السائدة، والمؤسسات، والدولة. والثورة في لبنان تمتاز، بشكلٍ أساسي، بالتمرّد على البنية الطائفية لنظام الحكم الأوليغارشي، ولكنها في الآن ذاته لا تتعارض مع الحاجة لتطبيق الإصلاحات الدستورية، وبالتحديد تطبيق المواد الدستورية التي لا تتعارض مع قيَم ومبادئ الثورة، بل تسهم جزئياً في عملية الانتقال السياسي وتفتح مجالاً "دستورياً" لقيام دولةٍ مدنية علمانية، فلا أساس دستوري لعملية المحاصصة، مقابل التجميد القسري الذي تقوم به السلطة للمادتين 24 و95 من الدستور.

مكمن المفارقة هنا أن الثورة في لبنان لا يمكن أن تخضع للدستور، لكنها ليست في تعارضٍ معه، على عكس قوى السلطة، بينما على قوى الثورة أن تقوم بإخضاع الدستور لمصلحة عملية التغيير، لا سيما فيما يتعلّق بتطبيق موادٍ تتفاداها السلطة منذ ثلاثين عاماً. تلك المواد إصلاحية لكنها ليست هي المدخل الوحيد نحو الإصلاح البنيوي، ويمكنها مرحلياً توفير قوة دفعٍ دستورية لسيرورة التغيير الثوري لكنها ليست هي هدف التغيير الثوري. فتركيز الدستوريين على تطبيق الدستور حصراً، والاكتفاء بسرديات الحل السحري من "العودة إلى الدستور" إلى "إلغاء الطائفية السياسية"، دون طرح العلمنة الشاملة وهدم البنية الطائفية للنظام السياسي وتحقيق انتقالٍ نوعيٍ في وظيفة الدولة، هو إخمادٌ للثورة في مهدها.

يتجاهل الدستوريون في تركيزهم الحصري على أولوية المسار الدستوري حجم الأزمة الاقتصادية، ومتطلبات التغيير السياسي في مرحلةٍ تاريخية تطبعها تحولات مجتمعية لم يسبق للبنان أن شهد مثلها، ويحاولون باستمرار فرض عناوين ايديولوجية خلاصيّة، كتلك التي برزت مؤخراً في المظاهرات والاحتجاجات، متمثلةً بطرح "الانتخابات النيابية المبكرة"، متجاهلين أيضاً أنهم بذلك يزوّدون حكومة دياب بشرعيةٍ لم تكتسبها في الشارع، خاصةً أنها أعلنت انحيازها التام، منذ لحظة تشكيلها، لسلطة الأمر الواقع المكونة من تحالف المصارف وكبار المتموّلين مع الرجعيات الطائفية، كما بشّرتنا باستمرار سياسات الاستدانة بدل استرجاع الأموال المنهوبة وتطبيق قانون الإثراء غير المشروع وفرض ضرائب تصاعدية استثنائية، ونيّتها وضع لبنان تحت وصاية صندوق النقد الدولي. فكيف يمكن لهذه الحكومة أن تضع قانوناً للانتخابات يمثّل تطلعات الشعب اللبناني؟

على هذا الأساس تكون المطالبة بانتخاباتٍ نيابية مبكرة خيار الثورة المضادّة بامتياز، ومحاولة لفرض العودة القسرية إلى الانضباط الدستوري السابق لتاريخ 17 تشرين الأول 2019، وهو انضباطٌ لادستوري في آن، فهو تكريسٌ لنمط التقاسم المحاصصاتي للسلطة على أسسٍ طائفية رجعية. فإن عدم الالتزام بالدساتير والقوانين هو من سمات تعفّن نظام حكم الأقلية، وتحوّله إلى نظام حكمٍ أوليغارشي، كما يشير أفلاطون في كتابه "السياسة". السلطة تقاتل الثورة بسلاح الدستور، وتقاتل الدستور وتفسّره باستنسابيةٍ في آنٍ معاً، فهي في الأساس سلطةُ التمديد والفراغ وعدم الالتزام بالاستحقاقات الدستورية لسنوات عديدة. السلطة في حالة تخبّطٍ دائمة، فيما تجهد القوى السياسية المتذبذبة ما بين مواقعها التاريخية في السلطة وموقعها غير المعتاد في الشارع لنقل حالة التخبّط تلك إلى صفوف الثورة، لنشهد رفع يافطة "الانتخابات النيابية المبكرة" على الأرض، فيما تروّج أدواتها الإعلامية لهذا المطلب على شاشات التلفزة والصفحات الالكترونية. لذا، فإن الانتقال "الدستوري" و"السلمي" للسلطة، عبر المؤسسات، إمّا أن يكون مشروطاً بقانونٍ انتخابي يمثّل المبادئ التي أسّست لها الانتفاضة الشعبية، أي أن يكون نسبياً وخارج القيد الطائفي، وإما أن يكون مدخلاً لإعادةً إنتاج النظام وطعنةً تُغرس في ظهر الثورة.

مشروع بناء الدولة الذي تنادي به تلك القوى المطالبة بانتخابات مبكرة، لا يمرّ عملياً إلا على أنقاض الدولة الطائفية والمنظومة الأوليغارشية، وليس من داخلها. هذه مسألةٌ قد صارت بديهية بالنسبة للسواد الأعظم من اللبنانيين، حتى ولو كانوا يتعرّضون لأشكال مختلفة من الإخضاع في الوقت الحالي. هذه هي المرة الأولى التي لا يجب على اللبنانيين المطالبة فيها بإجراء انتخابات نيابية، فالتصدّع قد بلغ أركان الهيكل، وعلينا البدء بالتأسيس لمرحلة ما بعد الانهيار.