تخطى إلى المحتوى

تصريف أعمال رئاسة الجمهورية

mazen nassereddine

من المسائل التي تبدو مُلحةً وربما الاكثر تداولاً اليوم، وبمناسبة انتهاء عهد الرئيس ميشال عون والبحث عن الجهة المُخوّلة الاضطلاع بصلاحيات ومهام الرئيس، مسألة تحديد الجهة الدستورية التي ستقوم بتصريف أعمال مؤسسة رئاسة الجمهورية.

وقد اختلفت آراء الكتّاب والمفكّرين والفقهاء حول هذا الأمر باختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، بحيث ان بعض الطروحات الفقهية باتت تستمد مشروعيتها من الأهواء السياسية ليجري تطويع النصوص والمبادئ الدستورية باتجاه حلول تتماشى مع رغبات هذا الفريق او ذاك لاعتبارات طائفية او مصلحية صرف، بيد أن هذه الطروحات من المُفترض أن تستمد مشروعيتها من قراءة رصينة ومُحايدة للنصوص، وبما يتناسب حُكماً مع مصلحة الوطن والمواطن ومع نية المُشترع والغاية منها دائماً انتظام العمل في مؤسسات الدولة وإداراتها تحقيقاً للمصلحة العامة وتيسيراً لحياة الناس.

فالنَزَق والحمق السياسي، هذا فيما لو افترضنا حسن النية، ينقلب الى ارتكابات خطيرة بحق الوطن والمواطنين فيما لو افترضنا سوءها. والافتراض الأخير هو الأكثر قابليةً للتصديق تبعاً للتجارب المريرة والمديدة والمُتجدّدة مع هذه المنظومة وشعراء بلاطها، الذين يمدونها بآراء ودراسات غب الطلب وكيفما اتفق الهدف منها إعادة ترتيب موازين القوة في معارك دنكيشوتية لا تسمن ولا تغني من جوع.

والمُلفت أن البعض الذي يقول بوجوب ان تقوم الحكومة (ولو كانت حكومة تصريف اعمال لم تجتمع كمجلس وزراء) بتصرف اعمال رئاسة الجمهورية، ينطق بحق يُراد به باطل. فلو كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ضنيناً وحريصاً على مصلحة العباد والبلاد لما منع حكومته المستقيلة من الانعقاد ليُرسي بذلك قاعدة مُخالفة للدستور، جرى اعتمادها منذ أعوام خلت، فاستغلّ البعض تطبيقها ظرفياً واعتباطياً ولمجرّد الكيد السياسي لمحاولة ترسيخها كعادة او عرف دستوري، ثم استمد منها هذا البعض، أو غيره، مقولة ان حكومة تصريف الأعمال التي لا تنعقد لا تستطيع القيام بمهام رئيس الجمهورية.

وهذه التصرفات الوضيعة وما شابهها، في ظل الانهيار التام لمؤسسات الدولة، هو ما درجت واستقرت عليه منظومة الاستبداد والفساد منذ عقود من الزمن من خلال مخالافتها الدستورية والقانونية التي كانت دائماً وابداً في سبيل تحقيق مصالحها الخاصة البعيدة كل البعد عن مفهوم إدارة الدولة والمؤسسات صوناً للصالح العام ولحقوق الناس.

وفي هذا السياق استرعى انتباهي رأي قديم للعلامة والفقيه الإداري والدستوري الفرنسي Marcel Waline، في معرض تعليقه على قرار صادر عن مجلس شورى الدولة الفرنسي في العام 1950، مؤدّاه ما يلي:

« Tout se passe comme si, pour le Conseil d’État, il existait, au-dessus de toutes les lois écrites, même constitutionnelles, un principe supérieur de droit coutumier se résumant en ceci : la continuité du fonctionnement des services publics essentiels à la vie nationale doit être assurée à tout prix »

وتعريب ذلك:

"كل ما يحصل كما لو أنه، بالنسبة الى مجلس شورى الدولة، يوجد فوق كل القوانين المكتوبة، وحتى الدستورية منها، مبدأ أكثر سمواً في القانون العرفي يُلخص بما يلي: إن استمرارية عمل المرافق العامة الأساسية للحياة الوطنية يجب أن يتم تأمينها بأي ثمن."

ومن المعلوم فقهاً واجتهاداً أنه لدى غياب النص أو غموضه يتم البحث عن نية المشترع، وهذه النية عادةً ما تكون مفُترضة افتراضاً، لتتماشى مع تسيير المؤسسات وتيسير عملها، ولا يجوز إطلاقاً ان يقصد المشترع تعطيل الدولة وإحداث الفراغ في مؤسساتها ليُترجَم ذلك مزيداً من الانهيار على مختلف الصعد.

وأنه بصرف النظر عن الموقف من الرئيس نجيب ميقاتي وحكومته ومن العهد وكامل المنظومة التي فشلت في احتواء تداعيات الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي في البلاد، هذا الانهيار الذي كانت هي بالذات السبب المُباشر فيه، فإنه لا يجوز سوى تسليم هذه الحكومة المُستقيلة صلاحيات رئاسة الجمهورية وكالةً، بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، وإن كان توقيع مرسوم استقالتها، كما يرى البعض، قد ادى الى انعدام وجودها ونزع عنها وعن وزارئها كلّ صفة.

ولتوطيد هذا الرأي، تجدر العودة الى أحكام المادة 62 من الدستور اللبناني التالي نصّها:

"مادة 64: في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء."

لقد عبّر المُشترع صراحةً في هذا النص عن الجهة التي تُناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلو سدة الرئاسة، دون الرجوع الى علّة هذا الخلو، سواء كان بالاستقالة أو بالموت أو بالعجز أو بانتهاء الولاية، فحدّدها بما لا يقبل التأويل بمجلس الوزراء.

فهل يجوز لحكومة تصريف أعمال لا تجتمع، جرى مؤخراً قبول استقالتها بمرسوم ألغى مرسوم تشكيلها وجعلها منعدمة الوجود، أن تتولى تصريف اعمال رئاسة الجمهورية؟

من الضروري هنا التأكيد مُجدداً أن غاية المُشترع الأساسية هي تنظيم أمور الناس وترتيب علاقاتهم بين بعضهم البعض وبينهم وبين الدولة، وعلى هدى ما تقدّم فإن المُشترع يسعى دائماً إلى ملء الفراغ في المؤسسات والإدارات، خاصةً تلك التي تُعنى بشؤون الناس، تطبيقاً لنظرية استمرارية المرفق العام، وكذلك يجب أن يكون الوضع بالنسبة إلى المؤسسات الدستورية الأساسية ومنها مؤسسة رئاسة الجمهورية.

ولتحقيق ذلك كان لا بد من استنباط نية المُشترع وقصده بعبارة "مجلس الوزراء" الواردة في نص المادة 62 من الدستور، وان التفسير هنا من المُفترض فيه ان يتماشى مع مبادئ التفسير العامة ومنها ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي جاء فيها ما حرفيته:

"وعند غموض النص يفسره القاضي بالمعنى الذي يحدث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمناً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى.
وعند انتفاء النص يعتمد القاضي المبادئ العامة والعرف والإنصاف.".

فإذا كان قانون أصول المحاكمات المدنية قد أرسى قاعدة جوهرية مفادها أن تفسير النص يجب أن يكون متوافقاً مع الغرض منه (أي الغرض من النص)، فقياساً على ذلك، ومن باب أولى، أن يكون تفسير النص الدستوري، وبالتالي استخلاص نية المُشترع، متوافقاً مع الغرض من النص وفي الاتجاه الذي يُحدث معه أثراً إيجابياً يرعى حقوق الناس ويحمي مؤسسات الدولة.

وهذا الاتجاه يُحتّم عدم السماح بالفراغ في أية مؤسسة وبالتالي تطبيق نظرية تصريف الاعمال، في نطاقها الضيق، على مؤسسة رئاسة الجمهورية وتكليف مجلس الوزراء، المُستقيل والمقبولة استقالته، القيام بهذه المهمّة وكالةً.

31/10/2022
المحامي مازن نصرالدين